من بين معارفي، هنالك قلة من الأشخاص الذين غيروا نظرتي إلى الحياة بأكملها، وجعلوا طريقة تفكيري وتأملي للأمور مختلفة تماماً، بعد أن أخبروني بتجاربهم التي مروا بها. "خالد" كان واحداً منهم.
■ ■ ■


ببطء، حركتُ الملعقة في فنجان قهوتي، قبل أن أشعل سيجارتي، مستمتعاً بإطلاق دخانها في فضاء ذلك المقهى الفاخر في مدينة غزة، فيما جلس "خالد" قبالتي، حيثُ كنا نتحدث عن التجارب التي مررنا بها في غزة. كان صديقاً جديداً تعرفتُ إليه من خلال إحدى دورات تطوير القدرات الشبابية، في واحدة من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، حيثُ دعوته إلى تناول فنجان من القهوة كي نتجاذب أطراف الحديث، وهذا ما حدث. كنتُ أحدثهُ عن عملي الصحفي، وكيف رأيتُ الموت قريباً مني عشرات المرات. كذلك حدثته أيضاً عن العديد من تجارب زملائي، فيما كان هو ينصتُ إلي بهدوء دون أن يعلّق بحرف، قبل أن يقول لي: "كل التجارب التي حدثتني عنها صعبة فعلاً، ولكن قد تغيرُ رأيك عندما تسمع قصتي".
تناولتُ رشفة من فنجان قهوتي، قبل أن أسأله عن تجربته، مُعتقداً أنها غير بعيدة عن التجارب التي قلتها، لكنّ خاب ظني هذه المرة مما أسعدني بشدة!
قال " كنتُ شهيداً سابقاً!".

■ ■ ■


"هل سبق لك أن عشت "حياتين"؟ أنا لا أقصد هنا ذلك النوع من التجارب الذي تجد نفسك بعده قد أصبحتَ "شخصاً مختلفاً"، تماماً بعد مرورك بتجربة معينة، بل أنا أتحدث عن "عمرين كاملين". لستُ أدري كيف أعبّر جيداً عن الفكرة التي بداخلي، فأنا لستُ صحفياً مثلك، ولكنني أتمنى أن تكون الفكرة قد وصلتك. أنا من شمال قطاع غزة، كما تعلم. لو أصبحتُ شهيداً ــ وقد كنتُ قريباً من ذلك بالفعل! ــ لكتبوا في سيرتي الذاتية المختصرة كـ"شهيد": "كان شاباً رياضياً، اجتماعياً ومحبوباً من مختلف أفراد مخيمه، تخرج من جامعته بمعدل عالٍ..." إلخ. أنت تعرف هذا النوع الرتيب من السير الذاتية، الذي يرافق عادة صورة باهتة لشهيد ما، وكل ما في الأمر أن من كتبوها أرادوا التعريف عنه في سطور لمن يجهله. هل كانوا سيكتبون أن لي حبيبة وقتها؟ أجزم بأن هذا مستحيل! كل شيء بدأ ليلة الحادي والثلاثين من كانون الأول/ ديسمبر من عام 2008، حيثُ كان العالم يستعد ليستقبل عاماً جديداً، فيما كنا نحن نستقبل المزيد والمزيد من القذائف والصواريخ فوق روؤسنا. صاروخ من هؤلاء غيّر مجرى حياتي إلى الأبد.
كم كانت الساعة وقتها؟ لستُ أذكر بالضبط. ما أذكره جيداً أنها كانت ليلة شتوية مقمرة، بلا غيمة واحدة، حيثُ أفسحت الغيوم المجال كي يظهر القمر والنجوم والصواريخ وأضواء القصف البعيدة، لتخبرنا بأن أرواح المزيد من الضحايا في طريقها إلى السماء. مخيمنا كان يحاول "التمرد" على أجواء الحرب: كنا نحاول الخروج قدر الإمكان من بيوتنا وأن نسير ولو في نطاق محدود حولها، حتى وإن حلّ الليل الشتوي مبكراً كعادته الأزلية، ما لم تتجاوز الساعة التاسعة ليلاً، لذا فإنني أعتقد أن قصتي حدثت قبل الساعة التاسعة بقليل.

■ ■ ■


كل شيء حدث في ثوانٍ فجأة: في أحد شوارع مخيمنا الهادئة، مرّ بجواري آخر ما يمكن أن تتخيله: صاروخ ضخم - طوله يتجاوز الأمتار الستة بتقديري - كان ذاهباً لينهي حياة أناس آخرين لا أعرفهم، فجاء ليغير حياتي أنا. هل رأى الطيار الذي أطلقه ومن يراقبون المشهد في قمرة القيادة ما حدث لي بعدها؟ لقد وجدتُ نفسي أحلقُ عالياً بفعل ضغط الهواء. مشهد لن يتكرر في حياتي مرة أخرى: أنا على ارتفاع عشر طبقات تقريباً، فيما ضوء القمر يغمرني وكأنني كنتُ قريباً منه إلى حد بعيد. أتأمل بيوت مخيمي ومدينة غزة وقد التهمهما السواد بفعل انقطاع التيار الكهربائي، فيما أنظر إلى البنايات العالية التي أصبحتُ "جاراً طارئاً" لطبقاتها العليا، قبل أن أهوي سريعاً إلى الأرض كنيزك عجول. و... هوب! ارتطم رأسي بقسوة، شعرتُ بعدها وكأن كل شيء قد انتهى، قبل أن يعلمني الألم الذي غزاني بأنني ما زلتُ حياً.
الألم الألم الألم! اللعنة عليه. إنه يمسك بكل خلية مني. يعتصرها ببطء وحشي، ليصرخ كل ما فيّ إلا فمي. كيف وضعوني في تلك السيارة التي نقلتني إلى المستشفى؟ صدقاً: أنا لا أذكر، ولكنني موقن بأنني بائس فعلاً لأن سيارة الإسعاف لم تدركني أولاً: فمن أراد إسعافي، وضعني في الكرسي الأمامي - بكل كسوري الكثيرة وجراحي الخطرة، ولك أن تتخيل كيف كان وضعي - حيثُ مضى سائق السيارة مسرعاً في طريقه إلى المستشفى، قبل أن يوقف سيارته بشكل أرعن، فيصطدم رأسي بزجاج السيارة الأمامي، المهشّم في الأصل، لتختلط شظاياه بمخي المفتوح أمام الهواء الطلق، بعد أن كسرت العديد من عظام الجمجمة العليا!!
رحلتي إلى قسم الاستقبال لم تكن أفضل، مع فارق مهمّ: لم أعد قادراً على تحريك أي جزء مني أو التعبير عمّا أشعر به. حتى جفوني أصبحت مفتوحة على مصراعيها، ولم ترمش ولو لمرة واحدة. القسم ممتلئ تماماً بالشهداء والجرحى الذين ينتظرون أن يفحصهم الأطباء. جاءني أحد الأطباء ليفحصني بشكل سريع، قبل أن يقول للممرض الذي معه "شهيد"! بعدها غُطِّي وجهي، وأنا أود أن أصرخ فيهم: "هيه أيها الحمقى، لا أزال حياً!". رحتُ أدعو الله أن ينتبه أحد أفراد الطاقم الطبي بالمستشفى إلى أنني ما زلتُ حياً، لكن الله لم يستجب لدعائي في تلك اللحظة.

■ ■ ■


نُقلتُ بعدها إلى الجزء الأخطر من قصتي: "ثلاجة حفظ الجثث"! هل لك أن تضع نفسك مكاني؟ أن تُلَفَّ بغطاء أبيض، ومن ثم تُدخَل فيها، وأنت بكامل وعيك، ومن ثم يُغلَق بابها ليسود الظلام الدامس عليك أنت و"رفاقك الجدد" داخل هذا "المثوى المؤقت". أي تجربة يمكن أن تعادل تجربتي؟ لا أدري كم مكثتُ بها من الدقائق، إلا أن شريط حياتي بأكملها مرّ أمامي في خلال تلك الدقائق. حسناتي وسيئاتي. هفواتي وأخطائي وخطاياي. مشاريعي المستقبلية. حبيبتي التي كنتُ سأتقدم لخطبتها قريباً، وكانت أمّها على علم بذلك. مسؤولي المباشر الذي كثيراً ما أراد إذلالي أمام زملائي الآخرين. لحظات الفرح مع أسرتي وأصدقائي. كل ذلك انتهى. كم هي تافهة هذه الحياة!
يُفتح باب الثلاجة فجأة. هل سيضعون فيها "نزيلاً جديداً"؟ متى سأموت لأرتاح من هذا الفيلم المرعب، والبرد الذي يدك أوصالي؟ مهلاً! لقد كانوا يخرجونني أنا يا صاحبي! خطر ببالي ساعتها: هل راجعوا خطأهم؟ لكن ما حدث بعدها كان مخيباً للآمال: كان هنالك عدد من أصدقائي الذين علموا بخبر "استشهادي" مبكراً، ومن ثم قدموا لتوديعي، وبعدها سأُعاد إلى "ثلاجتي" من جديد! اقترب أحدهم ليقبّلني في خدي، قبل أن يتوقف بعدها لثوانٍ ويبدأ الصراخ: "خالد حيّ! لقد مسّني الهواء الخارج من أنفه وأنا أقبّل وجنتيه"! حاول الأطباء اتهامه بالحمق، قبل أن يعيد أحدهم الفحص، ويتبين صدق ما قاله صديقي، ومن ثم نُقلتُ على جناح السرعة إلى قسم العناية المركزة.

■ ■ ■


هل لك أن تتخيل الرحلة الطويلة التي قطعتها كي أصبح قادراً على فعل أشياء كانت بالنسبة إلي في يوم من الأيام أمراً معتاداً، كالمشي والجري أو حمل أبسط الأشياء ككأس من الماء، أو حتى الوقوف؟ لم أعد نفس الشخص الذي كُنتُه أبداً. ما الذي تغير؟ كل شيء. خسرتُ عملي السابق، خلال شهور النقاهة. تعامل أسرتي معي. تعامل أصدقائي. حتى حبيبتي: بعد أن تعافيت، أردتُ التأكيد لها أنني مُصرٌّ على خطبتها، فحددت لي موعداً مع أمها الحيزبون، التي أرادت أن تقول لي ما لم تستطع أن تقوله هي: "هل تعتقد أن بإمكاني أن أسمح لابنتي بأن تتزوج "بقايا إنسان" مثلك؟!".
أعوام تتابعت، وأنا أحاول ترميم هذا الجسد البائس، لأكتشف كم هو ضعيف الواحد منا، لأصل إلى ما وصلتُ إليه اليوم، لكنني صرتُ إنساناً آخر، وكأن تلك التجربة جعلتني أولد من جديد. والآن قل لي يا صديقي: ما رأيك بقصتي؟.