في الميدان الليبي الكبير، تشعر وكأنك في حلبة سباق مع الزمن في معركة بسط السيطرة على الأرض. غالباً ما تصدرت مدينة مصراتة (القريبة جغرافيا وسياسيا لأهالي الشطر الغربي من ليبيا)، المشهد منذ سقوط العقيد معمر القذافي نهاية 2011. هي الأقوى عسكرياً، ففيها ميليشيات عدة مجهزة بأفضل العتاد وآلاف المقاتلين. وتتنوع فيها التيارات السياسية، بينما تبقى الغلبة فيها للقيادة "الإخوانية" التي تسيطر على جلّ حملة السلاح وهم يمثلون ما عرف سابقا بقوات "فجر ليبيا" التي هيمنت على مناطق الغرب. وقد شرّع هؤلاء عملهم العسكري بانضوائهم تحت عباءة "المؤتمر الوطني العام" وحكومة طرابلس، وأمسكوا مع بعض الفصائل الإسلامية بالحياة السياسية في العاصمة الليبية.في السياسة والميدان، لدى هؤلاء عدو التفّت القبائل حوله في شرق البلاد. واصطف العسكر والضباط يلقون له التحية بعدما وجدوا فيه ضالتهم إثر تهميشهم جراء الثورة على "العقيد". فكانوا سندا لخليفة حفتر، في معاركه ضد "التكفيريين" الذين عاثوا في بنغازي ذبحا وسحلا وتفجيرا. أسس حفتر (الذي تخطى العقد السابع من العمر) الجيش الليبي. فرض سيطرته على معظم مناطق الشرق، تحالف مع مدينة الزنتان في الغرب الليبي، فرض الانتخابات التشريعية بالقوة، وحقق انتصارا سياسيا في مجلس نواب اعتُرف دولياً بشرعيته.
في المعركة الداخلية، اللاعبون الدوليون الكبار يراقبون، والعرب فيها حاضرون: شرق مدعوم من السعودية ومصر والأردن والإمارات، وغرب برعاية قطرية وتركية.
تُهزم قوات حفتر في طرابلس وتتراجع خطوة إلى الوراء، فيعاد إحياء "المؤتمر الوطني" وحكومة طرابلس، في مقابل حكومة وبرلمان طبرق.
تنظيم "داعش" يخترق المشهد، يعزز حضوره وسط البلاد، يحوّل مدينة سرت إلى معقله، إذ فيها كل ما يحمي كيانه: مدينة تعوم على النفط، مطلة على البحر، تحتضن كل من هرب من بطش الثائرين على القذافي. مقاتلو "التنظيم" خبروا فنون الحرب في سوريا والعراق، وجاهزون لتوسيع دولة "البغدادي"، لديهم العمق في الجنوب، وخلف الحدود "بوكو حرام" تنتظرهم وتناصرهم.
المشهد يؤرق الغرب. تدرك الولايات المتحدة أنّ الدخول العسكري هو بمثابة انتحار، ويحمّل الرئيس الأميركي، باراك اوباما، فرنسا وبريطانيا مسؤولية ما آلت إليه أوضاع ليبيا. يذهب بالسياسة لمحاولة لمّ شمل الليبيين في الصخيرات المغربية حيث اجتمعوا، وتحاوروا بأعلى النبرات، وتعاركوا بالأيدي أيضاً، وخرجوا بحكومة "الوفاق"، وبفائز السراج رئيساً لها. يفرض السراج مجيئه بالقوة إلى طرابلس. يهدد حكومة "المؤتمر" بالسلاح إن لم تحل نفسها، ويستحضر لهؤلاء مشهد قصف المقاتلات الاميركية في زليتن. تلين حكومة طرابلس مع عاصفة الضغط الدولي المهول وتستقيل. ويعوّض لها بالمجلس.
فائز السراج صار في مواجهة مع حفتر. يرفض الأخير أن يكون تحت إمرة من حملته أمواج السياسة الدولية إلى قيادة البلاد، ويرى أنه الأحق بتمثيل قيادة الجيش، وبفصل العسكر عن السياسية. يشترط حفتر ذلك دستوريا. يمتلك من المؤهلات ما يدعم قراره: تلاحم لقواته العسكرية، مجلس نواب يملك فيه الأغلبية، ومزاج في شرق البلاد يرى فيه قائدا ومناصرا لمظلوميتهم على مدى أربعة عقود. هم مستعدون أيضا للانفصال إن دعت الحاجة لذلك. يعي حفتر هذه الأمور جيداً، وتصله الضغوط يوميا للتنازل للسراج بضمانات شخصية، لكنه يتسلح في المقابل بدعم روسي ومصري للاستمرار في المواجهة.
في السياسة سيستمر التفاوض، والكلام هذه الأيام للميدان. يضغط حفتر بكل قوات الجيش لإنهاء ما تبقى من جيوب لـ"داعش" في بنغازي. إنهاء المعركة منتصراً سيزيد من قوته ورصيده الشعبي في الشرق عموماً، فسيصبح قائدا. ينظر بطرف عينه إلى سرت، حيث قوات مصراته الموالية لحكومة السراج تواجه "داعش"؛ انتصارها من دون شك سيثبت حضورها على الأرض وستحرج حفتر كثيرا. الطرفان يراهنان على السلاح، وأي انكسار لهذا الطرف أو ذاك سيحوله إلى سلّم لصعود الآخر.