إلى أين يمكن أن تصل التفاهمات بين إسرائيل وروسيا حول الساحة السورية؟ ما هي الحدود المتوقعة لهذه التفاهمات، وهل هي فعلاً مقتصرة على «الخطوط الحمراء» الإسرائيلية ومنع تسلح حزب الله بسلاح كاسر للتوازن؟ وهل صحيح أنّ كل هذا «الودّ والحميمية» اللذين تبديهما تل أبيب لموسكو، يتعلقان فقط بتمكينها من توجيه ضربات جوية لعمليات نقل أسلحة؟ وماذا عن الاستجابة الروسية، وما هي حدودها؟كلام رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، القاطع حول منع «تحول سوريا الى قاعدة ايرانية»، وأيضاً منع تزود حزب الله في لبنان بوسائل قتالية متطورة، واضح جداً ويعبّر عن مقاصد إسرائيل وأهدافها المعلنة، تجاه الساحة. مع ذلك، وبلا جدال، «الخطوط الحمراء» هي عنوان وجزء من الاستراتيجية والمصالح الإسرائيلية التي لا تقتصر عليها.
الخطاب الإسرائيلي المعلن، حول الخطوط الحمراء، يعبّر في الموازاة عن حالة إسرائيل لدى تلمّسها محدودية القدرة على تنفيذ مصالحها، ما يجبرها على الحد من تطلعاتها المعلنة، من دون أن تلغي مقاصد أكثر استراتيجية وأشمل من المعلن. هي حالة عاكسة لأهداف وقرارات تضطر تل أبيب إلى اتخاذها عندما تكون أهدافها الأصلية غير قابلة للتحقق، أو موضع شك كبير.
تقتصر الرواية الرسمية الإسرائيلية، حول سوريا تحديداً، على هذه «الخطوط الحمراء»، وتحديداً ما يتعلق بـ«تهريب السلاح» الى حزب الله. وبمعنى من المعاني، هي غير معنية، كما تقول، بما يجري في سوريا، ما السلاح السلاح «الكاسر للتوازن» لا «يهرب» إلى لبنان، وما دام الإيرانيون لا يشعلون جبهة الجولان. ابتداءً، يمكن أن يتحقق ذلك عبر السماح لها بأنشطة تكتيكية وشنّ هجمات جوية ضد عمليات نقل السلاح، وأيضاً ضرب الخلايا التي تعمل على تنفيذ عمليات انطلاقاً من الجولان.
إلا أنّ مروحة الخيارات النظرية لفرض الخطوط الحمراء تصل إلى حد الخيارات الاستراتيجية للساحة السورية، في حال تمكنت إسرائيل من تحقيق ذلك عبر تحويل النظام في سوريا إلى نظام على شاكلة «دول الخليج المعتدلة». نظام كهذا، من شأنه أن يمنع «تهريب» السلاح، وأن يمنع الايرانيين، كما قال نتنياهو، من تحويل سوريا إلى قاعدة إرهاب إيرانية تعمل ضدها، ولا تقتصر النتيجة حينها على «الخطوط الحمراء» المعلنة، وهي أقل الممكن من ناحية المصالح الإسرائيلية، بل على إيجاد نظام جديد في المحيط، في حد أدنى عدوّ لأعدائها، وهذا هو المقصد الاستراتيجي الإسرائيلي الكامل، حيال سوريا.
إلا أنّ ذلك يتحدد وفقاً للامكانات الاسرائيلية وشبكة المصالح المتقاطعة مع غيرها من اللاعبين المركزيين في الساحة السورية، الذين يعدّون معبراً ضرورياً ولازماً لتشكّل سوريا المستقبلية. جهدت إسرائيل في بداية الازمة السورية لنسج علاقات «حميمة» مع المعارضة السورية، كي تكون مصالحها حاضرة في حال نجاحهم في إسقاط النظام. في هذا الاطار، نجحت تل أبيب بشكل كبير جداً، ولو قيّض للمعارضة، و«الجيش الحر» في حينه أن يحققا انتصارهما الذي كان موعوداً ومرتقباً ومقدراً إسرائيلياً، لكانت سوريا الآن شبيهة بإحدى دول الخليج «المعتدلة»، سلخت نفسها عن المحور المعادي لإسرائيل، وضمنت لها مصالحها الاستراتيجية بصورة كاملة.
دارت الدائرة وتغيّر الواقع السوري. التدخّل الروسي الذي نظرت اليه تل أبيب كتهديد، في البداية، رأت فيه أيضاً فرصة، إذا جرى التعامل معها بحكمة وموضوعية، من شأنه أن يحقق مصالحها الاستراتيجية في سوريا، تماماً كما كان الامل في «المعارضة المعتدلة» مع بداية الحرب السورية.
في البداية، أملت تل أبيب أن «يسمح» الروسي لها بمواصلة نشاطها الجوي ضد «نقل السلاح»، وهو ما تحقق لها بصورة كاملة. الاستجابة السريعة للروس، انطلاقاً من الاعتبارات الروسية، دفع إسرائيل إلى التطلع نحو المزيد. الجهد والمساعي المبذولة تجاه موسكو، منذ تشكل «التفاهم» بين الجانبين حول تنسيق الطلعات الجوية فوق سوريا، انصبّا على هذا الاتجاه ولا يزالان. زيارة نتنياهو الحالية، التي تهدف في الدرجة الاولى الى تعزيز العلاقات بين الجانبين في شتى المجالات، لا تنفصل عن الهدف السوري. تأمل إسرائيل أن يساهم ذلك في بلورة علاقات أكثر حميمية، عمّا هي عليه الآن، ويمكّنها من تحقيق مصالحها في نهاية المطاف، عبر الوسيلة الاستراتيجية المرتبطة بشكل النظام السوري الجديد ومضمونه، اللذين يمرّان حكماً عبر روسيا، لا فقط عبر الوسائل التكتيكية.
لكن هل تستجيب موسكو؟ الواضح من المقاربة الروسية العملية والميدانية، ومن حركة الزيارات البينية والمواقف التي يطلقها الجانبان، أن الموقف الروسي لا يقتصر فقط على «الاستماع الجيد» لما يرد من تل أبيب، أو مجرد «تفهم» لموقفها ومصالحها، وثمة شك كبير في أن التفاهم البيني مقتصر على «السماح» بمواصلة الاعتداءات الاسرائيلية ضد نقل السلاح الى لبنان، في الاراضي السورية.
مع ذلك، لن يتحدد الموقف الروسي من المطالب الاسرائيلية الاستراتيجية، وتحديداً «سوريا المستقبلية»، بناءً على الودّ والحميمية اللذين تبديهما تل أبيب. نعم لن ترفض موسكو مساعي تل أبيب لتحسين العلاقات معها، وستعمل ما في وسعها للاستفادة القصوى منها، وكذلك لن تمانع في أن لا يتشكل إزعاج إسرائيلي كما هي الحال مع تركيا. إلا أن الحسابات الروسية، حول سوريا المستقبلية، قد لا تتوافق مع حسابات إسرائيل ومصالحها. مروحة المصالح والاعتبارات لدى روسيا، هي أشمل وأوسع من إسرائيل ومن تطلعاتها لسوريا، وضمن هذه المصالح، حصراً، تتحدد التوجهات والافعال والمواقف الروسية، ومن بينها سوريا المستقبلية.