تُمثّل حلب نموذجاً مُتفرّداً في الحرب السورية في العموم، وفي ما يتعلّق بالجوانب الخدمية على وجه الخصوص. فمنذ أواخر عام 2012 حتى اليوم، لم تعرف المدينة أيّ نوع من أنواع الاستقرار في أيّ ناحية خدمية. وبات مألوفاً أن تُقطع مياه الشرب أسابيع متواصلة، والتغذية الكهربائية شهوراً متتالية، في مقابل فترات تغذية محدودة جدّاً وغير مستقرّة «بين الأشواط». الأمر الذي ينطبق أيضاً على قطاع الاتصالات في المحافظة المهملة. سعى عدد من المنظمات الدولية والمحلية بشكل مستمر إلى لعب دور الوسيط بين مؤسسات الدولة السورية والمجموعات المسلّحة للوصول إلى تفاهماتٍ تُخفّف «الأضرار الحيوية» قدر المستطاع، في ظل تعذّر الرهان على نجاح أي جهود لتحييد هذه القطاعات بشكل كامل عن الحرب.
منذ أواخر عام 2012 لم تعرف المدينة أيّ نوع من الاستقرار
وثمّة اتفاقات وتفاهمات كثيرة تمّ التوصل إليها بين مختلف الأطراف عُرقلت في اللحظات الأخيرة غيرَ مرّة ولأسباب «غامضة». من بين تلك الاتفاقات المُعطّلة يبرز اتفاق يتعلّق بخدمات الاتصالات، وهو اتفاق شبه ناجز لكنّه مُعلّق منذ ثمانية أشهر. ومن شأن العمل بهذا الاتفاق (الذي ينتظر موافقة وزارة الاتصالات السوريّة) أن يتكفّل بعودة خدمة الانترنت ADSL بشكل فعّال إلى حلب، وهو «حلمٌ» كاد الحلبيّون ينسوه لولا الزيادة الهائلة التي طاولت أسعار خدمة الانترنت عبر الخطوط الخلوية 3G أخيراً. تعود حكاية حرمان حلب من خدمة ADSL بشكل كامل إلى ما يزيد على عام، وتحديداً إلى سقوط محافظة إدلب في قبضة «جيش الفتح». حينها قُطع الكابل الضوئي المتفرّع عمّا يُعرف بـ«كابل البحر الأسود» عبر الريحانية، إدلب، وصولاً إلى حلب. دخلت المدينة مرحلة انقطاع اتّضح أنّها ليست مؤقتة، مع كل ما يعنيه ذلك من انعكاسات سلبية على عمل معظم القطاعات الخدمية والاقتصادية، من المصارف وشركات تحويل الأموال، مروراً بدائرة الأحوال المدنية (النفوس) إلى المؤسسات التعليمية، علاوةً على «الحلقة الأضعف» المتمثّلة في المدنيين. تحرّك الوسطاء في مساعٍ إلى إيجاد صيغٍ تُعيد «الإنترنت إلى مجاريه». أولى المحاولات سعت إلى إقناع الأطراف بالموافقة على إصلاح خطّ أرضي بديل يدخل عبر أعزاز، مروراً ببلدة حيّان (في الريف الشمالي) إلى حلب، لكنّ الجهود اصطدمت حينها بطلبات تعجيزيّة للمجموعات المسلحة المسيطرة على حيّان. تحوّلت جهود الوسطاء إلى إقناع الأطراف بتسهيل إصلاح كابل قديم آخر هو كابل «دمشق ــ سراقب ــ إدلب ــ حلب». كُلّلت الجهود بالوصول إلى اتفاق بدا حينها «خياراً ذهبيّاً»، مفادُه موافقة المجموعات المسلّحة على تسهيل الإصلاح في مقابل منح إدلب تغذيةً كهربائيّة وتشغيل الاتصالات فيها. كذلك، كان من شأن تطبيق هذا الاتفاق أن يضمن تحييد محطّة زيزون الحراريّة عن المعارك. حصل الاتفاق على الموافقات اللازمة من جانب الدولة السورية وعلى مستويات عُليا (بما فيها موافقة جهات أمنية عُليا). لكنّ هذه الموافقات لم تحُل بين وزارة الكهرباء وبين رفض الاتفاق، مُقدّمةً ردّاً فائق الغرابة مفادُه أنّ «وزارة الكهرباء لا علاقة لها بالاتصالات ولن تكون طرفاً في هذا الاتفاق، وليست مستعدة لتقديم أي مساعدة على هذا الصعيد»! (تبعات فشل الاتفاق طاولت في الدرجة الأولى محطّة زيزون الحراريّة التي تحوّلت سريعاً إلى نقطة اشتباك ساخنة، وخرجت لاحقاً من الخدمة). المفارقة أنّ وزارة الكهرباء قامت لاحقاً بتنفيذ مطالب المسلّحين ذاتها (تغذية إدلب كهربائيّاً) بعد أن عمدت المجموعات المسلّحة إلى قطع خطوط التغذية الكهربائيّة عن حلب، لتوافق الوزارة (بعد جهود كبيرة للوسطاء) على إمرار تغذية كهربائية إلى إدلب وريفها بقوة 10 ميغا «لأسباب إنسانيّة» (وفقاً لما نصّ عليه الاتفاق حينها) في مقابل إعادة خطوط التغذية إلى حلب!
بعد تعذّر الوصول إلى حلول توافقيّة، خلصت وزارة الاتصالات إلى حل بديل يقوم على مدّ خط ألياف ضوئية عبر طريق أثريا ــ خناصر ــ حلب. بدأ العمل فيه بتكلفة تقديرية بلغت ملياراً ومئتي مليون ليرة سورية، على أن يُنجز في أواخر عام 2015. لكن بعد تعرّض هذا الطريق لهجمات عدّة توقّف العمل في المشروع، واستمرّت حلب من دون إنترنت. قامت وزارة الاتصالات بتركيب دارات لاسلكية سمحت بعودة خدمة ADSL، ولكن بسرعة منخفضة جدّاً، وقدّمت الخدمة مجّاناً للمواطنين، غير أنّ فعاليتها بقيت محدودة ولا تصلح لأكثر من التصفح البسيط المتقطّع. تجدّدت جهود الوسطاء وأفلحت قبل ثمانية أشهر في الوصول إلى اتفاق جديد يلبّي شروط وزارة الاتصالات ويسمح بعودة الخدمة إلى حلب بسرعة مفتوحة، مقابل عودتها بسرعة محدودة إلى إدلب، وذلك عبر إعادة كابل «دمشق ــ سراقب ــ إدلب ــ حلب» إلى الخدمة (وهو أمر لا يتطلّب أكثر من ثلاثة أيّام لإنجازه في حال توافق جميع الأطراف). تم إبلاغ الوزارة بنتيجة هذه المفاوضات للحصول على الموافقات اللازمة، لكنّ لم يصل منها أيّ ردٍّ حتى الآن.