عادة وفي مؤتمرات الأحزاب تُحسم الأمور قبل انعقاد المؤتمر. وفي ما يخصّ النهضة، فهي حركة عقائدية وككلّ الحركات العقائدية لا تغيّر المؤتمرات خياراتها الإستراتيجية والمبدئية، إذ لم يفصل المؤتمر الأخير النهضة عن مرجعيتها الإخوانية.إنّ الحديث عن الفصل بين الدعوي والسياسي أمور شكلية تعكس تأقلم حركة النهضة مع وضعها الجديد كحزب مشارك في الحكم. ستهتمّ الجمعيات المنبثقة عن الحركة بالمسائل الدعوية كالحلال والحرام وأحكام الشريعة، فيما تتفرّغ النهضة إلى المعارك السياسية الكبرى كالانتخابات المحلّية (البلدية) والانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة. وستشكّل الجمعيات المذكورة حزاماً للنهضة ورأس حربة في المعارك الدعوية كما كان الشأن عليه مع الحزب الدستوري والمنظمات التابعة له، فطريقة التعامل مع المسائل الدعوية ستهتمّ بها هذه الجمعيات نيابة عن الحزب وهي تابعة له. ولقد تمكّنت النهضة من تكوين عدة جمعيات خيرية ودعوية منتشرة في أغلب المدن والقرى التونسية وممولة محلياً وخارجياً.
كنّا ننتظر من النهضة الفصل الحقيقي بين السياسي والديني لا بين الدعوي والسياسي كما أقرّه مؤتمرها، لأنّه عندما دعا الرأي العام التونسي إلى النّأي بالمساجد عن العمل السياسي المتقلّب واقتصارها على الثوابت الدينية، خالفت النهضة الجميع وتبنّت مقولة فصل المساجد عن الأحزاب، فكان أن استمرّ بعض الخطباء في الترويج لخطاب تكفيري وفي الدّعوة إلى الإقصاء والتحريض على العنف. لذلك لا أرى أن النهضة تغيّرت بعد مؤتمرها، بل إنّ كل ما قامت به هو محاولة للالتفاف على انحسار تمدّد الاسلام السياسي إقليميا ومحاولة منها لطمأنة الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وإيهام الرأي العام الغربي أنها تغيّرت، فيما لم تعلن موقفا صريحا وواضحا من تخليها عن مرجعيتها الاخوانية أو عن نقدها الذاتي لما اقترفته من أعمال عنف في السابق. لذا رأى عديد من المتابعين أن النهضة تتبدّل ولكن لا تتغيّر، وخاصة أنها تتقن أسلوب الجهر بما لا تضمر. مع العلم أن كل حركات الاسلام السياسي بدأت تستعد لتبني هذه المقولة، أي الفصل بين الدعوي والسياسي، للتخفيف من حدّة تراجعها مثل حركة الاخوان في مصر.
تستعد حركات عدة لتبني "الفصل" منعا للوقوع في تجربة "إخوان مصر"

إنّ النهضة حزب شديد المركزية وقراراته لا تنبع من القواعد بل من القيادة وتحديداً رئيس الحركة الذي يتّخذ القرارات ويلتزم البقية التنفيذ. كنّا ننتظر انفصال النهضة عن ماضيها العنيف وقيامها بالنقد الذّاتي والاعتذار للضحايا. لكنّها اعتبرت في مؤتمرها الأخير الارهابي محرز بودقة مفجّر الفنادق بمدينتي سوسة والمنستير في صيف 1986 "شهيد الحركة". رغم قناعتي بأن محرز بودقّة وغيره ممّن دبّروا وخطّطوا ونفّذوا عملية تفجيرات الفنادق في سوسة والمنستير هم من أبناء حركة الاتجاه الاسلامي (النهضة حاليا)، كنت أتوقّع أن المنطق والحكمة السياسية تفرضان على النهضة عدم التّذكير بتلك الحادثة في هذه الفترة التي تسعى فيها إلى التخلّص من اعتبارها تنتمي إلى فضاء الاسلام السياسي، وخاصّة أن الاعلام التونسي سبق له أن أعاد تسليط الأضواء على تلك العملية الارهابية وتحدث عنها أكثر من طرف بمن فيهم القاضي فرحات الراجحي الذي ترأّس إحدى الجلسات الخاصّة بتلك الحادثة، وأقرّ الجميع بثبوت التهمة على المتهمين وبانتمائهم إلى حركة الاتجاه الاسلامي. وقد استنكر الرّأي العام التونسي وندّد، ولا يزال، بتلك العملية واعتبرها عملية إرهابية إجرامية استهدفت أشخاصا أبرياء واستهدفت قطاعا حيويّا للاقتصاد التونسي.
وهي شبيهة إلى حدّ كبير بالعملية الانتحارية الارهابية التي استهدفت فندق "رياض بالم" بسوسة في صيف 2013، وشبيهة أيضا بتلك العملية الارهابية الخطيرة التي استهدفت فندق "امبريال بلاص" بسوسة في الصيف الماضي وأدخلت السياحة التونسية في أزمة خطيرة لم تستطع إلى حد اليوم تجاوزها (والله وحده يعلم متى سيمكنها ذلك) إذ أغلقت إثرها أغلب الفنادق وأحيل الآلاف على البطالة، وعمّقت في أزمة الاقتصاد التونسي. وقد أجمع الجميع بمن فيهم النهضة على إدانة تلك العملية، فلماذا إذن تفرّق النهضة الآن وتميز بين إرهاب وإرهاب؟ وما القصد من ذلك؟ هل تريد طمأنة قواعدها إلى أنها لا تزال متمسكة باختياراتها السابقة ولو على حساب فقدان ثقة الرأي العام التونسي؟ وهل تريد أن تقول لتلك القواعد أن فصلها للدعوي عن السياسي هو مجرد تسويق إعلامي وخطاب موجّه للآخرين، وأن الأصل هو عدم التخلي عن الاسلام السياسي بكل ما يعنيه ذلك من ممارسة للعنف تجاه الخصوم ورفض لمدنيّة الدولة وللحداثة؟ أسئلة على النهضة أن تقدّم إجابات مقنعة عنها قولا وفعلا.
إنّ متابعة تصريحات الغنوشي في السنوات الأخيرة، وإلى الآن، تظهر أنها لا تتضمن أي تغيير جوهري في ما يهمّ اختيارات الحركة. فالحديث عن الديموقراطية قديم وتبنّته النهضة منذ أواخر التسعينيات فيما الغنوشي لم ينفصل عن الحركة الإخوانية. أمّا الرسالة التي جرى ترويجها في بعض الصحف العربية مؤخراً ونُسِبت إلى الغنوشي وتضمنت زعماً بانفصاله عن حركة الإخوان المسلمين، فإن زعيم النهضة تبرّأ منها وأكد ضمنيّا انه لم ينفصل عن الإخوان، على الأقل عقائديا حتى لا نقول تنظيميا.
إنّ المتابعين للشأن السياسي التونسي يتأكدون يوماً إثر آخر أن النهضة تتبدل ولا تتغير.

*كاتب وباحث أكاديمي تونسي