سرّبت مصادر حكومية عراقية الشهر الماضي أن بغداد كان تفاوض الدول الدائنة، وخاصة الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين، في محاولة لإقناعهم بإسقاط الديون المتراكمة على البلاد، والتي بات يتعذّر سدادها. غير أن هذا الوهم سرعان ما تبدد الأسبوع الماضي، بإعلان وزير المال العراقي، هوشيار زيباري، أن بغداد وقّعت اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي «يمنحها» الأخير بموجبه قرضاً مشروطاً بقيمة 5.4 مليارات دولار. أما مكافأة الدائنين لبغداد، إن هي التزمت شروط الصندوق، فهي تحميلها المزيد من الديون، بقيمة قد تصل إلى 15 مليار دولار في السنوات الثلاث المقبلة، بحسب ما أُعلن رسمياً.
قبل الخوض في شروط هذه الديون المسماة «مساعدات»، وآثارها على مستقبل العراق، ينبغي بدلاً من استجداء «مساعدات» مسمومة، كان على حكام بغداد أن يطالبوا الولايات المتحدة وشركاءها بتعويضات عن جرائم الحرب التي ارتكبوها بحق البلاد، والتي أودت بحياة نحو 3.3 ملايين عراقي منذ عام 1990 حتى عام 2012 فقط، وفق أحد التقديرات، فضلاً عن تسميم بيئة العراق باليورانيوم المنضب، واغتيال الكفاءات العلمية للبلاد، كأمثلة فقط. إسقاط ديون البلاد كاملة من شأنه أن يكون دفعة أولى صغيرة من تعويضات جرائم الحرب التي تواطأت الأمم المتحدة في فصولها الأكثر قذارة، وأبرزها الحصار الوحشي على العراق بين بداية التسعينيات وحتى الغزو عام 2003، وبرنامج ابتزاز «النفط مقابل الغذاء».
في مقابلة مع فريق برنامج «الصندوق الأسود» على قناة «الجزيرة»، في أيلول من العام الماضي، يقول الخبير العسكري السابق لدى الجيش الأميركي، دوج روكي، إن البنتاغون كلفه وزملاء له العمل على تنظيف آثار أسلحة اليورانيوم المنضب المستخدمة في العراق، ودفن مخلفاتها، والاستمرار في نكران استخدامها. وفي البرنامج نفسه، يتحدث الخبير في النشاط الإشعاعي، كرس بزبي، عن دراسة أجراها في مدينة الفلوجة، على مئات العائلات والأشخاص، أثبتت وجود علاقة بين أمراض السرطان واللوكيميا والتشوهات الخلقية التي بات يتعرض لها عدد متزايد من السكان، وبين سلاح اليورانيوم المنضب الذي استخدمه الجيش الأميركي. وبحسب تصريح لمسؤول في وزارة الصحة العراقية في أيلول من عام 2013، فبين عامَي 2007 و2010، أظهر أكثر من نصف المواليد الجدد في الفلوجة عيوباً خلقية، بينما لم تتعدّ النسبة العُشر قبل الغزو الأميركي. وانتهى نحو 45% من حالات الحمل بالإجهاض التلقائي بين عامَي 2004 و2006، بينما لم تتعدّ النسبة 10% قبل الغزو. وفي البصرة أيضاً، ارتفع معدل العيوب الخلقية عند المواليد الجدد 17 مرة خلال أقل من 10 سنوات، بين عامَي 1994 و2003، لتبلغ النسبة 48% بين عامَي 2003 و2009.
يشترط صندوق النقد دفع مليارات الدولارات لشركات النفط الأجنبية

وقد تكون الضربة الأقسى للمحاولات المستقبلية للنهضة بالعراق، حملة الاغتيالات التي تعرض لها العلماء العراقيون بُعيد الغزو. وفقاً لتقرير بثته قناة «روسيا اليوم» الشهر الماضي، اغتيل حتى عام 2008 نحو 350 من علماء الذرة و200 من الأكاديميين من مختلف الاختصاصات. ودفع ذلك بأعداد كبيرة من كوادر العراق العلمية، تقدرها بعض المصادر بـ 17 ألفاً، إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة خاصة. وكان مجلس الشيوخ الأميركي قد صادق، عام 2002، على قانون لاجتذاب العلماء العراقيين، بمنحهم بطاقات الهجرة إلى الولايات المتحدة، ووعدهم بفتح «آفاق بديلة أكثر إشراقاً» أمامهم.
كانت سياسة التقسيم وإذكاء الفتن والإفساد المعمم أحد أمضى الأسلحة الأميركية لـ«اغتيال مستقبل العراق» بعد غزو 2003 (لا عجب أن نحو 4 مقالات منشورة تتشارك العنوان نفسه). وفي هذا الصدد، قال المرجع الديني، علي السيستاني، مطلع العام الجاري، إن «معاناة الشعب ازدادت بسبب سوء الإدارة والفساد والأوضاع الأمنية المتردية»، وذلك في كل عهود هذه الحقبة. كانت موازنة القطاع الزراعي عام 2010 (قبل استيلاء أو تدمير داعش لمساحات كبرى من الأراضي الزراعية) لا تتجاوز 0.8% من مجمل الموازنة، وكانت العشرات من المصانع الحكومية متوقفة عن العمل، ولا تزال حتى هذا اليوم (تعِد الحكومة الآن بـ«إحياء» هذه المصانع عبر بيع الكثير منها للقطاع الخاص)، فيما لم تنجح بغداد بعد، أو هي تصر على ألا تنجح، بإعادة التيار الكهربائي إلى المستوى الذي يمكّن سائر قطاعات الاقتصاد من العمل بشكل طبيعي.
أما الخدمات الأساسية في العراق، فقد بلغت حداً من التردي، بحيث وصلت نسبة الأميين عام 2011 إلى 20%، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء. وفي تشرين الأول من العام الماضي، تفشى مرض الكوليرا في البلاد، وكان أعلى معدل للإصابة في محافظة بغداد نفسها، بنحو 600 إصابة، حيث توفي اثنان من المصابين. وعزت مصادر طبية انتشار المرض إلى تردي حال البنى التحتية الأساسية، ولا سيما تجهيزات الصرف الصحي، وتلوث المياه.
هذا الواقع المأسوي للبنى التحتية والإنتاجية والخدمية يحتّم مستوىً عالياً من الإنفاق الاستثماري لإعادة البناء، على غرار ما فعلت بغداد بعد عدوان 1990، معتمدة على امتلاكها احتياطياً من النفط هو من الأضخم عالمياً. لكن حكومة حيدر العبادي أعلنت منتصف العام الماضي اتباعها سياسة «التقشف»، الوصفة الأثيرة لصندوق النقد. ويوم الخميس الماضي، كشف المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، مظهر محمد صالح، أن موافقة صندوق النقد على القرض الأخير اشترطت خفض نفقات الموازنة العامة بنحو 13 تريليون دينار عراقي. وفي هذا السياق، نقل تلفزيون العراق الرسمي، مطلع الأسبوع الماضي، أن وزارة التخطيط أعلنت إعادة النظر في 6000 مشروع عام، بذريعة الأزمة.
ولا تقف شروط الصندوق عند هذا الحد، فأهمها يتعلق بدفع متأخرات بمليارات الدولارات مستحقة لشركات النفط الأجنبية العاملة في البلاد. وفي هذا السياق، ينبغي أن نذكّر بما نشرته صحيفة «ذي إندبندنت» من وثائق تظهر، قبل خمسة أشهر من غزو العراق، حصول خمسة اجتماعات على الأقل بين مسؤولين في الحكومة البريطانية وممثلين عن شركتي «بريتيش بيتروليوم» و«رويال داتش شيل» العملاقتين، حيث قالت في إحداها وزيرة الدولة البريطانية لشؤون الشرق الأوسط، إليزابيث سيمونز، إن حكومتها تعتقد بأن «شركات الطاقة البريطانية ينبغي أن تأخذ حصة من نفط العراق واحتياطاته الهائلة من الغاز، كمكافأة على مشاركة (رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني) بلير الولايات المتحدة في خططها لتغيير نظام صدام». إذاً، فإن من أولويات شروط صندوق النقد الدولي دفع «مستحقات» ناهبي ثروة العراق النفطية بقوة السلاح.