الجزائر | قبل سبعة وعشرين عاماً (في 11 نيسان/أبريل 1989) لجأ زعيم "حركة النهضة" التونسية، الشيخ راشد الغنوشي، إلى الجزائر هارباً من حكم بالسجن المؤبد أصدرته في حقه محكمة عسكرية في تونس بتهمة التآمر على رئيس الدولة، زين العابدين بن علي، وفي تلك الفترة كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ تبدو قاب قوسين أو أدنى من تسلّم الحكم في الجزائر، أو على الأقل هذا ما كان يتوقعه كثير من الجزائريين ومن الغربيين المهتمين بما يجري على الضفة الجنوبية من البحر المتوسط.
بيد أن حدس الغنوشي أخبره بشيء آخر، فسارع إلى مغادرة الجزائر باتجاه السودان، وقبل أن تجري الانتخابات التشريعية في الجزائر في كانون الأول/ديسمبر 1991، كان قد استقر به المقام في بريطانيا، ولعله شعر بأن أزمة كبيرة ستحدث في البلد قد تعجّل بعودته إلى سجون بن علي.
لم تغب حقيقة الجغرافيا عن الغنوشي وقادة "النهضة". وهو وعي قد تختصره عبارة "الشقيقة الكبرى" التي توصف بها الجزائر من قبل الساسة في تونس، ويشترك في استعمالها الرسميون وقادة الأحزاب، وتكون الجزائر قد استحقت وصف "الكبرى" بحكم مساحتها التي تفوق مساحة تونس 15 مرة، وربما هي كبرى أيضاً بجيشها القوي الذي يستند إلى خبرة طويلة في مكافحة الإرهاب، فيما تعكس وصفة "شقيقة" الحرص على علاقة مستقرة معها في كل الظروف. فقد بقيت علاقة تونس الليبرالية بالجزائر الاشتراكية مستقرة، ولم يشذ إسلاميو "النهضة" عن القاعدة في الفترة التي تولوا فيها الحكم بعد سقوط نظام بن علي وإلى غاية انتخابات 2014.
هذا الاستقرار شابته فترات توجس، إذ اتُّهمت الجزائر صراحة من قبل حزب التحرير السلفي (وغيره) في تونس، بالوقوف وراء اغتيال المعارض التونسي محمد البراهمي، وتحدثت أوساط مقربة من "النهضة" عن سعي الجزائر إلى إجهاض التحول الديموقراطي لمنع انتقال العدوى، وجرى التذكير بالعلاقة المتينة التي كانت تربط الحكومة الجزائرية بنظام بن علي، وسوقت المعارضة الجزائرية هذه الاتهامات وأعطتها مزيداً من الصدقية، غير أن تجربة "النهضة" في الحكم دفعتها سريعاً إلى بعض المراجعات.

تعززت العلاقات إلى حد
الاعتقاد بأن الغنوشي يمارس دبلوماسية موازية

بعد سنة من سقوط بن علي، بدت الجزائر أكثر اطمئناناً إلى امتصاص صدمة التغيير الحاصل على حدودها الشرقية، ومع تصاعد التحديات الأمنية في تونس، وعلى الحدود، إضافة إلى المخاطر التي تمثلها الفوضى الليبية، ظهرت الحاجة إلى تنسيق أمني فعّال مع الجزائر، وهو تنسيق ظلت حكومة "النهضة" تذكر بأهميته وضرورة استمراره، وبدت الأزمة السياسية التي صاحبت عملية كتابة الدستور، والتي وضعت عملية التحول الديموقراطي برمتها أمام امتحان عسير، كفرصة مهمة لإعادة ترتيب علاقة الجزائر بالأطراف السياسية الفاعلة على الساحة التونسية. وخلال تلك الفترة زار كل من راشد الغنوشي، والباجي قايد السبسي الجزائر، وجرى استقبالهما من طرف الرئيس بوتفليقة، وكان الحديث عن وساطة تقوم بها الجزائر بين الطرفين من أجل حلحلة الأزمة السياسية بما يمنع الانزلاق نحو العنف والفوضى. والحاصل أن الجزائر استغلت الظرف من أجل تأكيد حسن نياتها تجاه تونس، وأنها ملتزمة جملة المبادئ المعلنة في سياستها الخارجية والتي تلخصها في الاعتراف بالدول لا بالأنظمة، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ومن هنا جاءت مساعي الوساطة بين "النهضة" وخصومها كرد مباشر على الاتهامات التي لاحقت الحكومة الجزائرية بالسعي إلى إجهاض التغيير في البلدان المجاورة. لكن ليس هذا فحسب، فالموقف الجزائري محكوم أيضاً بمخاوف من انهيار الدولة في تونس، وهو أمر سينعكس مباشرة على استقرار الجزائر، وقد أثبتت الأحداث لاحقاً أن الجماعات الإرهابية كانت تريد توسيع رقعة الفوضى في المنطقة.
رسالة أخرى كانت تريد أن تبعث بها السلطات الجزائرية من خلال الاقتراب أكثر من "النهضة"، وهي موجهة بالأساس إلى الداخل، تفيد بالانفتاح على الحركات السياسية الإسلامية التي تنبذ العنف، وهكذا تحولت زيارات الغنوشي المتكررة للجزائر، والتي عادة ما يستقبل خلالها من قبل بوتفليقة، إلى مناسبة للإشادة بحكمة الرئيس وبصيرته، والأهم من هذا تأكيد اطلاعه على ما يجري حوله، وقدرته على ممارسة دوره السياسي المؤثر، ومثل هذه الشهادة من الغنوشي تضعف مطالب المعارضة الجزائرية، والإسلاميين خاصة، التي تنادي بإجراء انتخابات رئاسية مسبقة بحجة عجز بوتفليقة المريض عن ممارسة مهماته.
من جهتها حاولت "النهضة" أن تثبت للسلطات الجزائرية التزامها حسن الجوار، فقد سارعت إلى التذكير بخصوصية الحالة التونسية، وإلى الحرص على استقرار العلاقة مع الجزائر التي تبقى السند الذي لا يمكن الاستغناء عنه في المجال الأمني خاصة، وبالنسبة إلى الغنوشي يمثل هذا المسعى مدخلاً لتقديم الطمأنات، ليس لدول المنطقة فحسب، بل للدول الغربية أيضاً، وقد اجتهد في الابتعاد أكثر عن التنظيمات السلفية المتطرفة.
السنوات الخمس الماضية منحت "النهضة"، من خلال الغنوشي، فرصة لتعزيز علاقاته بالسلطة الحاكمة في الجزائر، إلى درجة ساد معها الاعتقاد بأن الرجل يمارس دبلوماسية موازية ويتدخل لتبديد بعض الشكوك التي تنتاب الجزائر من بعض القرارات التونسية. وهكذا اعتبرت زيارته للجزائر في شهر تموز/جويلية 2015 على أنها محاولة لشرح الاتفاق الأمني الذي وقعته تونس مع الولايات المتحدة والذي منحها صفة الحليف من خارج حلف الأطلسي. ويعرف الغنوشي، مثل الرئيس التونسي باجي قايد السبسي، حساسية الجزائريين إزاء الاتفاقات المنفردة مع القوى العظمى، وهم الذين أبدوا دوماً معارضتهم لأي وجود عسكري أجنبي على حدودهم، رغم أن التغيرات التي حدثت في السنوات الأخيرة جعلتهم يتزحزحون عن هذه المواقف.
تعتقد السلطة الحاكمة في الجزائر أنها اجتازت امتحان الربيع العربي بنجاح، وهو ما يتيح لها الآن بناء علاقة قوية مع "حركة النهضة" تسمح لها بالاحتفاظ بورقة سياسية مؤثرة في الداخل التونسي، وتجعلها تحقق مزيداً من المكاسب في مواجهة خصومها في الداخل، ومن الإسلاميين خاصة، وستبقى هذه الحسابات معقولة ما لم تعصف بها رياح وضع إقليمي شديد الاضطراب.