الخامسة مساءً. الشمس تتوسط السماء كأنها وقت الظهيرة والطقس كعادته يخدعنا في إسطنبول فالأمطار تتساقط من دون أي سابق إنذار، الموظّفون والطلاب يغادرون بوابات الجامعة التي تقع في منطقة داوود باشا وسط إسطنبول الأوروبية باتجاه منازلهم، وأنا بانتظار الباص الذي سينقلني إلى ميدان بشكتاش الواقع على أطراف مضيق البوسفور ، وفي أذني سماعات تصدح بصوت الشاعر مريد البرغوثي يلقي قصيدته "فليحضر التاريخ" يطالب فيها التاريخ بأن ينصف الفلسطيني ويسجل –ولو لمرة واحدة- يومًا عاديًا من أيام حياته الطبيعية ، ثم تتبعها أغنية "لا بأس" للمغني التركي أديب أكبيرام يصبّر فيها نفسه على لا مبالاة من هم حوله به، ثم تبدأ الحافلة تشق طريقها إلى بشكتاش وسط الزحمة وتعطل حركة مرور المدينة بعد ساعات انتهاء الدوام الرسمي. قلبت في صور هاتفي النقال ووجدت فيها لوحة غرافيتي أحبها جدًا بعنوان "غزة على بالي" أرسلتها لصديقي الغزاوي، الذي يدرس الهندسة في مدينة برلين "ألمانيا"، كنت قد تعرفت عليه قبل أشهر في بيروت، التي جمعتنا خلال مؤتمر العودة إلى فلسطين، كما جمعت بيننا الغربة والحنين الدائم إلى غزة برغم كل القسوة التي فيها، وأرسلت إليه أيضًا أغنية تتحدث عن غزة كانت قد أرسلتها إلي صديقة من نابلس قبل فترة، قالت إنها أدمنت سماعها خلال فترة حرب غزة الأخيرة 2014 لعدم تمكنها من صنع شيء في وجه آلة الحرب فكانت هذه الأغنية تكبح جماح عجزها ، يقول فيها المغني جميل السايح:
"أنا من غزة وهواي يافاوي
من البحر ياخو زي البحر ناوي
أعشق سماي .. أسهر معاي
وأبات موعود ..
أحلم معاي وأسبح معاي
وأتخطى كل حدود"
قلت له إن هذه الأغنية تعبر عن حبه لغزة الذي حدثني عنه مرارًا، وتلخص البحر والسماء والوحدة والأحلام واختراق الحدود وفيها كلمة "يخو" الدارجة على لسان سكان غزة، ثم يردد المغني في آخرها:
" يا ليل يا عين .. يا بحر يا مواج
مليلي كاسي
رديلي المزاج
رديلي عزي
نيميني في غزة ... صحيني في بيروت"
ففاجأني بأنه يعرف قصة هذه الأغنية بعدما ظننت أنها نادرة لعدم سماعي بها مسبقًا، فقال : "هذه الأغنية جزء من فيلم لمخرج ألماني يتحدث عن قصة أخي "أخو صديقي"، الذي كان يكمل دراسته الجامعية في الضفة المحتلة ولم يتمكن من زيارتنا في غزة لمدة سبع سنوات متتالية"، فرغم أن المسافة بين الضفة المحتلة وغزة أقل من ساعتين بالسيارة، لكن حواجز الاحتلال العسكرية والخوف من الاعتقال تجعل غزة أبعد من الشمس للناظر إليها من الضفة.
كانت صديقتي تنتظرني لتناول الغداء معًا، فلا أسوأ من الجلوس وحيدًا على المائدة في الغربة، وكنا قد اتفقنا على تناول السمك في سوق السمك الشعبي بحي "بشكتاش" حيث عثرت على مطعم صغير هناك ذات مرة أفرغ صاحبه أفضل طاولة فيه لنا عندما علم أننا من غزة، وأخبرنا عن والده الذي كان أحد المشاركين في سفينة "مافي مرمرة" التي انطلقت لكسر الحصار عن غزة في مايو 2010، وراح ضحيتها تسعة متضامنين أتراك، لولا أن أخي الأصغر أرسل إلي صورة لوجبة سمك كانت أمي قد أعدتها لهم يومها صدفة، فالمقارنة بين سمك غزة الطازج الذي أعدته أمي بيديها على الطريقة التي يشتهر بها أهل غزة بصنع السمك، جعلتني أمتنع عن أكله يومها في سوق بشكتاش، فالسمك في غزة يصل البيوت حيًا تملؤه رائحة بحرها ذات النكهة الخاصة ويُطبخ بنفَس طيب.
لا نبالغ حين نقول إن غزة أشبه بمغناطيس، وإن أهلها المغتربين عنها كأصنام من حديد ينجذبون إليها طوال الوقت وتبقى وحدها محور حديثهم من أبسط الأمور إلى أعقدها، كثيرًا ما نربط أسماء الأحياء بإسطنبول بأسماء الأحياء في غزة، فمثلًا منطقة أكسراي المزدحمة بالباعة والمحلات العربية يطلق عليها بعضنا "سوق الشجاعية" أو "سوق الفراس" وهما من الأسواق الشعبية المشهورة في غزة، وعندما نتجول في شارع الاستقلال المكتظ بالسياح والمحلات التجارية يُسارع أحدنا إلى القول بأنه يشبه شارع "الترنس" في مخيم جباليا ولا ينسى صديقنا محمود القول بأن قهوة "دِليس" لها مذاق أفضل بكثير من القهوة التركية في كل مرة نشرب فيها القهوة في "قهاوي" إسطنبول –وما أكثرها- وكثيرًا ما يستذكر إسماعيل قهوة الكروان الشعبية، أو ما تعرف بـ "قهوة برّي" على اسم القهوجي القديم الذي يعمل فيها.
كما أن الحديث لا ينقطع في كل مرة نجلس فيها على مضيق البوسفور عن بحر غزة، برغم تلوثه ومحدودية الصيد والسباحة فيه، إلا أنه يبعث في أمواجه رائحةً "تَردّ الروح" وأمواجه تنقل معها الهموم على عكس هذا المضيق، الذي تحاصره المطاعم الفاخرة طوال ساحله، وفي أيام الإجازات نذهب صباحًا إلى مطعم غزة الذي افتتحه رجل من غزة قبل عام تقريبًا، ويبيع فيه أقراص الفلافل ويصنع حمصا وفولا بكثير من الفلفل الأحمر الذي يعد جزءاً أساسياً في موائد غزة، مطعمه المزينة جدرانه بصورة حنظلة وعلم فلسطين وبأبيات شعر عن غزة مع صوت الأغاني الشعبية الفلسطينية يشعرك وكأنك في أحد المطاعم الشعبية بغزة فعلًا.
تحاصرنا غزة في غربتنا كما يحاصرها الاحتلال في وحدتها. فالسر الذي تحمله غزة أكبر من أن تفسره بساطة كلماتنا رغم أن شخصًا واحدًا، غسان كنفاني، استطاع تلخيصه في مجموعته القصصية "أرض البرتقال الحزين" حين قال "هذا الشعورُ الغامضُ الذي أحسستهُ وأنتَ تغادرُ غَزَّةَ.. هذا الشعورُ الصغيرُ يجبُ أن ينهضَ عملاقاً في أعماقكَ، يجبُ أن تبحثَ عنهُ كي تجدَ نفسكَ، هنا بين أنقاضِ الهزيمةِ .. لن آتي إليك.. بل عد أنت إلينا، عد لتتعلم من ساق نادية المبتورة ما الحياة؟ وما قيمة الوجود".