كان مصروفي اليومي 250 ليرة وقت ذاك. سمعت أخي الذي يكبرني بعامين يخبر امي- همساً- صباح يوم الأحد انه ذاهب الى محل الحلواني مصطفى الكائن في ساحة "أبو طاقة" في المخيم. تذكرت ان جدي حيدر كان قد اصحبني معه ذات مرة ليشتري حلوى النمورة و المشبك بالقطر التي اخذناها معنا لزيارة عمتي. لم آخذ اكثر من دقيقة لاستيعاب ان اخي كان ذاهبا ليشتري كعكة كنافة، فأمي لم تطلب منه شيئاً، و لم تناوله مالاً، و بدا انه يستأذنها للذهاب مما يعني انها لم ترسله. رأيته يدفع باب المنزل الخارجي مسرعاً يهم بالخروج، ركضت وراءه سائلة إياه ان يسمح لي بمرافقته. رفع حاجبيه ببطئ يستفزني ثم أجابني بالرفض. توددت اليه قليلاً فاعترف لي بأمر الكعكة، لكنه بقي مصمماً على رأيه ثم قال وهو يلعب بقطعة النقود المعدنية بين يديه:" الكنافة حقها 500 ليرة و انت مصروفك 250 لشو بدك تروحي؟" ثم مشى مبتعداً عن البيت. أردت تلك الكعكة من كل قلبي. لم ألتف الى البيت بل لحقت بأخي دون ان ينتبه لي، كان لازال يلعب بقطعة ال500 ليرة طوال الطريق فلم ينتبه لي . لكن قبل ان يصل الى المحل بقليل، تدحرجت قطعة النقود من يده ووقعت على الأرض، لمحني و هو ينحني لالتقاطها. لم يقل شيئاً. فاقتربت منه و مشيت بمحاذاته بضع خطوات الى ان وصلنا. ناول أخي المال الى العم مصطفى مقابل كعكة كنافة مليئة بالقطر. هم أخي بالعودة الى البيت، لكني بقيت للحظة في مكاني، و أخبرت الحلواني انني أريد كعكة ب 250 ليرة، لكنه قال لي:" عمو جيبي 500 و تعي، هاي ما بتشتري كعكة". سمعه أخي فرمقني بنظرة كانت عيناها تقولان لي:"شفتي؟ قولتلك ما بتردي".
عدت الى البيت حزينة أحاول ان اجد كيف يمكنني الحصول على 250 ليرة أخرى. كان من المستحيل ان أطلب من أبي اكثر من مصروفي، فقد كان ابي يعتبر اننا اذ ما تعودنا على اخذ اكثر من ذلك فإننا لن نتعلم الانفاق الصحيح و أهمية ادخار المال لشراء أغراضنا الخاصة. و بالطبع، لم تكن أمي لتعطيني المال اعتباراً لنظرية أبي. لكني وجدت الحل! قلتُ أذهب لعند ستي "سودة" كي أحصل منها على مصروف متعللةً بأنني أضعت مصروفي يومها.
كانت سودة تجلس أمام الدار، تنظر إلى المار والذاهب دون أي تعليق، اقتربت منها سلّمت عليها وبسرعة كانت جملتها المعهودة: "شو بدك عم تتمسكني؟" أخبرتها أنني أريد مصروفاً إذ أضعت مصروفي. نظرت إلي قليلاً، ثم أردفت: لأ إنتِ مش مضيعة مصروفك. شو بدك تشتري؟ حاولت أن أشيح برأسي، لكنني كنت أعرفها جيداً، كانت تتقن معرفة ما نخبئه وبسهولة بالغة. "بدي أشتري كنافة، حقها 500 ومعاي 250 بس". نظرت إلي بغضب ساعتها وأمسكت بكتفي الأقرب إليها: "ولي مش عندكو مربى ودبس بالبيت؟ مش بعد في عندكو من كعك العيد اللي بتعمله إمك؟ ولي؟ ليش بدك تروحي مصاريكي على الكنافة؟ آه؟ ولا هو بعزقة؟ بعدين افهمي: اللي معوش ما بيلزمهوش. ما معك ما بتشتري، ولا بتفكري بالموضوع من أساسه".
طبعاً هي تركتني ودموعي تنزل حارقةً على وجهي، لكن، كل هذا لم يزدني إلا إصراراً على شراء الكنافة. عدتُ لأمّي، أخبرتها أنني أريد مصروف الغد، كوني أضعت مصروفي اليوم، أمي التي لم تملك إلا أن تقبل في النهاية تحت اصراري، ولكن بشرطٍ واحد أن تقسم الأمر: تعطيني مئة اليوم، و150 غداً، وهذا ما حصل بالفعل.
جمعت المئة ليرة مع المئتين و خمسين و سلكت الطريق عينه نحو دكان الحلواني. وصلت و سحبت من جيب بنطالي قطعتي النقود و ناولته اياهما، هز رأسه نفياً و أعادهما لي. تسمرت مكاني، وضعت النقود على الطاولة أمامه ولم أتزحزح لدقيقة كاملة.
أظن ان العم مصطفى يئس مني لأنه صمت وأعد لي كعكة الكنافة، و أخيرا!
لاحقاً، لا أعرف كيف علم اخي انني اشتريتها بثمن أقل، لكنه وبخني وأخبر العائلة كلها بأمري. جدتي سودة انتظرت فرصة لقائي بها لتقول لي وبصوتها المعهود: ارتحتي؟ جبتي الكنافة؟ هلق صار فيكي تنامي الليل الطويل؟"