لا يتوقف الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن الحديث عن إنجازاته في غالبية خطاباته. لعل "الإنجاز" الذي لم يُحك عنه كثيرا، هو "توفير الأموال"، وخاصة أن "الجنرال" لم يوضح طرقه في التوفير، مع أنها طرقٌ وسعت دخول القوات المسلحة في المشروعات لتنفيذها بأقل التكاليف، علماً بأن دخول الجيش على خطوط التنفيذ لمشاريع عدة ومن دون مناقصات في أحيان كثيرة، يحمل مخالفات قانونية واضحة.حديث السيسي عن إنجازاته في توفير الأموال في المشروعات الكبرى تحت إشراف "الهيئة الهندسية للقوات المسلحة"، مع التدقيق والتمحيص، لا يحمل سوى مبالغات في الأرقام التي يحكى عن توفيرها. فالرئيس الذي تكلّم الأسبوع الماضي عن مشروعات بتكلفة تريليون و40 مليار جنيه بدلاً من تريليون و400 مليار (فارق 360 مليارا) لم يتحدث عن آلية التوفير التي اتبعها في تنفيذ المشروعات، وتحديد الأولويات لتنفيذها، في وقت يسود فيه الغموض حول آلية إسناد المشاريع إلى الجيش.
إذاً، يدعي السيسي بأنه وفّر 360 مليار جنيه عبر إسناد المشروعات عبر "الأمر المباشر" إلى القوات المسلحة التي توسعت في زيادة أعداد المقبولين في التجنيد الإجباري، من أجل استيعاب تنفيذ المشروعات، وذلك بالاعتماد على أجور زهيدة يتقاضاها المجندون الذين لم يكمل غالبيتهم تعليمهم وعملوا في الجيش لمدة عامين أو ثلاثة أعوام وهم يتقاضون رواتب أقل من 50 دولارا شهرياً، مع أن هؤلاء يعملون لأكثر من 12 ساعة يومياً. كذلك تتعاقد "الهيئة" بالأمر المباشر أيضا مع شركات أخرى من أجل تنفيذ أجزاء من المشروعات ضمن أوقات محددة مع وضع شروط قاسية في حال التأخير في التنفيذ.
رئيس إشراف "الهيئة الهندسية للقوات المسلحة"، اللواء كامل الوزيري، تحدث من جانبه في نطاق محدود للغاية عن تكلفة المشروعات، فالمهم بالنسبة إليه سرعة التنفيذ وجودته، لأن الرئيس الذي يكلفه في أحيان كثيرة أمام الكاميرات وخلال جولاته الميدانية يجعله يدفع مبالغ مالية أكبر لإنجاز التنفيذ في زمن السيسي المطلوب، بالإضافة إلى الاستعانة بعدد أكبر من الشركات وسداد مستحقاتها سريعاً، وبالدولار الأميركي، علما بأنها مشروعات يمكن تنفيذها على مدى زمني أطول لضمان الدقة والجودة.
وإن غضضنا النظر عن التفاصيل المالية والزمنية واللوجستية، فحتى الآن لم ينفذ أي مشروع بخلاف ما تنفذه "الهيئة الهندسية" أو تشرف عليه كليا، وهو ما يعني تعطيل كل أجهزة الدولة المشروعات الخدمية التي تحدد مدد زمنية لها، عادة لا تنتهي فيها بالضبط، برغم توفير المخصصات المالية لإنجازها.
أهم مثال على هذه المقارنة، مشاريع الإسكان المتوسط التي طرحتها وزارة الإسكان، ومشروعات الري في عدد كبير من المحافظات المصرية، علماً بأن شركات كبرى مثل "المقاولون العرب" التي تعد الشركة الأولى في أفريقيا لتنفيذ المشروعات العملاقة، باتت تعاني محدودية المشروعات التي تسند إليها في مقابل ما يسند إلى الجيش، كأن الأخير بات بشركاته وقواته دولة أخرى تعمل بمحاذاة الحكومة.
أما إشكالية "الإسناد بالأمر المباشر"، التي توسع فيها السيسي مؤخراً، فلا تثير التساؤل عن فكرة الإسناد ومدى قانونيته فحسب، بل عن المبالغ المعطاة لتنفيذ هذه المشروعات، وهو ما لا توجد إجابة عنه لدى المسؤولين جميعا، باعتبارها أسرارا لا يمكن الاطلاع عليها. أيضا، فإن موازنة "الهيئة الهندسية" لا تناقش تفاصيلها أو آليات بنودها مع أنها تضاعفت خلال العامين الماضيين بصورة كبيرة، وخاصة على خلفية المشاريع الكبيرة مثل قناة السويس الجديدة أو استصلاح الأراضي وتوسيع الموانئ في منطقة القناة.
يقال عادة، إن النيات الطيبة لا تبني الأوطان، بعبارة أخرى، حتى لو كانت نية السيسي بالاستعانة بالجيش هي توفير النفقات وسرعة الإنجاز، فإن هذا تسبب في ظلم شباب كثيرين يضطرون إلى العمل تحت ظروف صعبة ودون أجر مناسب، مع أنها أعمال مدنية كان يمكن أن يتقاضوا عليها أضعاف ما تقاضوه خلال وجودهم في الجيش.
بطريقة أخرى، صار التجنيد الذي فرض على الشباب لخدمة الوطن، مكانا لعشرات الآلاف من الشباب في سبيل تنفيذ مشروعات الرئيس الصعبة، التي تختار أماكن وعرة لبدء تعميرها، في وقت ينتقد فيه الخبراء تعمير هذه الأماكن وترك أماكن أخرى أسهل وأقل تكلفة بكثير.
ومع أن اعتماد السيسي على الجيش في تنفيذ المشروعات عجّل الانتهاء في عدد منها، فإنه ترك وراءه شبهات مخالفات مالية لا تنتهي، وخاصة أن "الجنرال" لا يجيد الاقتصاد ولغة الأرقام جيداً، وكثيراً ما يذكر أرقاما غير منطقية وغير حقيقية في أحاديثه، وهو ما يتطلب رقابة حازمة من "الجهاز المركزي للمحاسبات". وللمفارقة، فقد أقيل رئيس هذا الجهاز الرقابي هشام جنينه، قبل ثلاثة شهور بعدما كشف عن تقارير فساد. كما لم يتحدث الرئيس الجديد للجهاز، المستشار هشام بدوي، المحسوب على الرئاسة، عن أي مخالفات للوزارات بعد، فهل يجرؤ بدوي في يوم ما، ويكشف عن مخالفات الإسناد بالأمر المباشر التي يؤكد خبراء القانون أنها إهدار للمال العام؟
(الأخبار)