غزة | لم يُصَب الفلسطينيون، على مدى وجودهم على أرضهم، بمأساةٍ أشدّ قسوة من النكبة التي حلّت بهم حين هاجمت العصابات الإسرائيلية المدنَ الفلسطينية عام 1948، وشوّهت معظم معالم المجتمع الفلسطيني السياسية والاقتصادية، وهدمت ما يربو على 500 قرية ومدينة فلسطينية، ليقيموا على أنقاضها مدناً يهودية بأسماءٍ عبرية.«الكبار يموتون والصغار ينسون»، عبارة قالها اليهود لظنّهم أن الزمن كفيلٌ بإنهاء القضية وإغلاق الملف، ولكن الأمنية هذه لن تتحقق البتّة، فبرغم أن المُهجّرين من كبار العمر هم الشاهد الحيّ على ذاك العصر الغابر، يبقى أثر النكبة مكرساً في معاناة الملايين من الفلسطينيين حول العالم.

خلال بحثنا عن توثيقٍ لهذا الإرث التاريخي الشفوي الذي يحمله أجدادنا، لم نجد أي هيئة فلسطينية رسمية قد حفظته ليكون مرجعاً دقيقاً لأحداث النكبة. السؤال وجه إلى مصطفى الصوّاف، وهو وكيل وزارة الثقافة في غزة، عن جهود الوزارة لتوثيق التاريخ الشفوي لأحداث النكبة، فقال: «أعمالنا تقتصر على فعاليات سنوية في تاريخ النكبة، الخامس عشر من أيار، وتمتد هذه الفعاليات لأسبوعٍ كامل لإحياء الذكرى، قبل يوم النكبة وبعده».
وأضاف الصوّاف أنّ لـ«الثقافة» دوراً في حفظ التراث وتوثيق الأحداث بعيداً عن التشويه والتزوير، ولكنه أبدى أسفه لغياب رصد موازنة لبرامج الوزارة أسوة بجميع دول العالم، ما يحول دون وضع برامج نوعيّة، كتحويل التاريخ الشفوي إلى مكتوب.
وما ينذر بالخوف على توثيق هذا الأرشيف أن كبار العمر ممن شهدوا تلك المراحل قلّ عددهم كثيراً بسبب الموت الطبيعي، فضلاً عن ضعف الذاكرة الذي يصيب عدداً كبيراً منهم. مثلاً، الحاجة فاطمة أبو ندى المُقيمة في مدينة خان يونس، والمُهجّرة من مدينة يافا عام 1948 مع زوجها، تؤكد أنها على عكس ذلك، لا تزال تذكر جيداً ما جرى في تلك الأيام.
تضيف أبو ندى: «هجَمتْ عصاباتٌ من اليهود علينا الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وأطلقوا أعيرة نارية فأُصبت في صدري، وكنتُ وقتها حاملاً الحمل الأول، وقد مرّ على زواجي ستة أشهر.... غرقت بدمي، وكان صعباً عليّ أن أتحرك، إلى أن ضمد طبيب جرحي، وجئنا بعدها بأيام إلى غزة».
في المقابل، ثمة نشاط غير حكومي، ففي مركز التاريخ والتوثيق الفلسطيني، يتركز عمل عدد من الأكاديميين والباحثين على تسجيل إفادات مصوّرة، ولساعات طويلة من كل شخص شاهد على النكبة من كبار السن، عدا توثيق إفادات لشخصيات فلسطينية قيادية.
بعد ذلك، يعمل المركز على تفريغ هذه الشهادات كتابياً وحفظها وأرشفتها. يشرح معاذ العامودي، الباحث في المركز، أن عملهم بدأ منذ أكثر من عشرة أعوام، ويكتسب أهمية كبيرة في توثيق التاريخ الفلسطيني، في ظل محاولات طمس الهُوية الفلسطينية وتزويرها.
يتابع العامودي: «كبار السن الذين عايشوا النكبة معظمهم قد توفي الآن، ما يفرض بذل جهد أكبر في جمع الإفادات وتسجيلها وحفظها ممن بقي منهم على قيد الحياة»، مكملاً: «لدى مركز التاريخ والتوثيق قسم يدعم الأبحاث الأكاديمية لأي شخص من داخل أو خارج فلسطين، ويقدّم القسم الدعم للطلبة والباحثين في هذا المجال».
في الوقت نفسه، يلفت العامودي إلى غياب أي مراكز أخرى ترعى برامج كهذه، بعد أن كان هناك مركز تابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، لا يقوم الآن إلا بالأرشفة!