لا شيء يشبه أن تمر النكبة عليك وأنت فلسطيني. فالنكبة تعني إعادة تذكّر "مر" لكل ما حدث مع أهلك وأجدادك وكيفية خروجهم من تلك الديار التي كانوا يعتبرونها أرضهم التي لا خروج منها إلا محملين. حدثت النكبة، جيوش وعصاباتٌ كثيرة، خياناتٌ أكثر، كل ذلك حدث في لحظةٍ قصيرة ما، فجأة وجد أهلنا أنفسهم "منكوبين". لم يتحدث أحدٌ قط عن "اللحظة" ذاتها في التاريخ، فلكلٍ مثلاً لحظته الخاصة في الرحيل عن فلسطين.
لكل واحدٍ قصته الخاصة وثانيته بكل تفاصيلها وسكناتها كما لو أنها لا نهاية لها، رغم قصرها أحياناً وابتعادها عن الواقع في أكثر من الأحيان. تأتي تلك القصص كنوعٍ من التذكر والتذكار كي لا ينسى جيلٌ ما بأن هذه الأرض أرضهم، وبأن فلسطين ليست مجرد "نكبةٍ" بمقدار ما هي أرضٌ يجب أن تعود.
كان جدي عرفة شيخ الصيادين في يافا، كان رجلاً قوياً، جلفاً، اعتاد البحر واعتاده، كان الجميع يعرف مدى قوته وسطوته، لكن أكثر ما كانوا يعرفون عنه تشبثه بيافا وبحرها، كان لا يطيق الابتعاد عن بحرها أبداً، كان أهلنا يعتقدون بأن عرفة الذي نسب إلى الجبل الشهير في مكة المكرمة إذا ما ابتعد عن البحر سيموت. كان سمكةً بشكل أو بآخر. حينما حدثت النكبة، وبدأ الوجود الصهيوني بالحدوث في مدينته البحرية الشديدة الشبه ببيروت، حاول عرفة أن يتعامل مع الحدث على أساس أنه حدثٌ طارئ عابر، لا مشكلة فيه من أي نوع، ولا دخل له بحدوثه، كان يعتبر أن العصابات الصهيونية شأنها شأن الاحتلال الإنكليزي وقبله الاحتلال العثماني؛ وأن شاوول مثل جوني مثل عصمت كلهم سيرحلون وسيبقى أصحاب الأرض أنفسهم فيها. لا شيء كان يعكر صفو جلوس جدي أمام البحر، وحديثه عن البحر وشجونه والصيادين ومشاكلهم التي لا تنتهي ومحاولاته الدؤوبة لحلها والتي غالباً ما تنتهي بضربه بعصاه الكبيرة أحد الصيادين لتحل المشكلة وينتهي النقاش. هذه المرة كان الموضوع أكبر من الحدود، لقد أتى مجموعةٌ من الجنود الإنكليز يطلبون من بحارة يافا كل قواربهم تقريباً، كان الطلب غريباً، إذ إن البحارة كانوا يدفعون "الضرائب" بانتظامٍ واستمرار، كانوا يحاولون ــ لأن ذلك مصدر عيشهم ــ أن يبقوا على علاقة تماس مع الاحتلال من أي نوع، فالبحر لا يمكن أن يحد، لأن ذلك سيقطع رزقهم ورزق عيالهم كما عائلاتٍ كثيرة. كان جدي يعرف أن ذلك الطلب فيه "إنّ" بالتأكيد. تحدث مع مدير مخفر العجمي (حي شهير في يافا) آنذاك فلم يحصل منه على جوابٍ شافٍ، كان الرجل (أي مدير المخفر) لا يعرف أكثر من الطلب. استشعر جدي الخطر، أخبر بقية البحارة بأن الموضوع أعقد مما يظهر عليه. تكرر الطلب الإنكليزي وعلى ما يبدو أن الطلب هذه المرة حدث مع إضافة "كوكبة" من الجنود إلى الطلب، أي أن الأمر أصبح ملزماً. حدثت المصيبة بعد ذلك بأيام، اخذ الإنكليز القوارب التي يريدونها، أما القوارب التي رفض أصحابها التسليم، فقد أحرقت وقتل بحارون أثناء محاولتهم إطفاء النار المشتعلة. خرج جدي مع جمعٍ من الصيادين لمحاولة التحدث مع الضابط الإنكليزي في المنطقة، لكن الضابط رفض. أصر جدي، فما كان من الضابط إلا أن طلب من جنوده أن يتهيأوا لإطلاق النار إن لم يخل البحارة المكان. خرج جدي وهو يعلم بأنَّ الموضوع معقدٌ أكثر مما ينبغي. لكن كان عليه أن يفهم لِمَ يحتاج الإنكليز إلى تلك القوارب؟ أرسل جدي بحارة شباناً لاستطلاع الأمر وفهمه. كانت كل الحكاية أن الإنكليز كانوا يجلون ركاباً إلى باخرةٍ تستقر بعيدةً عن الشاطئ، كان هؤلاء الركاب كما عرف جدي أوروبيين، لكن أكثر ما تنبه إليه البحارة الشبان أنهم يشبهون "اليهود" من حارة اليهود في يافا. أشهرٌ مضت على تلك الحكاية، والقوارب تؤخذ ولا يدفع ثمنها، والبحارة يجلسون على الشاطئ لا يفعلون شيئاً سوى انتظار انتهاء الإنكليز من استعمال قواربهم، لكن لا نهاية على ما يبدو للأمر. فهم جدي الحكاية، عرف بأن الموضوع لم يعد يشبه أياً من الاحتلالات السابقة، وبأن عدد "اليهود" الداخلين إلى فلسطين بات كبيراً للغاية. حزم جدي أمره، وقال للبحارة عنده: اللي بدو يرجع يصطاد بيافا لازم يودّي عيلته على مكان آمن، وبعدين يلاقيني هون بعد 3 ايام الصبح. حمل جدي عائلته وأركبها قاربه الكبير ذا المحرك القديم، وتوجه صوب لبنان، مرفأ صور تحديداً. أنزلهم هناك وقفل عائداً باتجاه مدينته المقدسة. لم يصل جدي أبداً إلى يافا. ذلك أن السفن الحربية البريطانية منعته من الوصول إلى يافا، وأخبرته بأن عليه أن يأخذ طريق البر. جدي لم يعد إلى فلسطين منذ ذلك اليوم حتى وفاته في المخيم في لبنان. شيخ صيادي يافا، لم يذهب إلى البحر من بعدها أبداً. وهناك جملةٌ واحدةٌ يكررها على لسانه: بحر يافا غير؛ بحر يافا غير.