خلال الأيام الماضية حقّق تنظيم «الدولة الإسلاميّة» تقدّماً كبيراً على ثلاث جبهات متباعدة نظرياً، متّصلة في واقع الأمر (الرمادي، دير الزور، ريف حمص). فيما تستمر معاركه على جبهة رابعة (القلمون الشرقي)، يبدو التقدّم فيها أحد أبرز النتائج المتوخّاة كحصادٍ للتقدم في الجبهات الثلاث.
وعلاوةً على الأثر الاستراتيجي الذي يُنتظر أن تؤديه سيطرة التنظيم على الرمادي في العراق، يُمكن الاستيلاء على المدينة أن يضمن لـ«داعش» استغلال المستجدّات لشن حملةٍ إعلاميةٍ كبيرة تُعيد رسم هالة «التنظيم الذي لا يُقهر»، خاصة أنّ التقدّم يأتي بعد فترة قصيرة من قرار القوات العراقية تقديم معارك الأنبار على معارك الموصل، لتأتي نتائج الميدان معاكسةً للأهداف المفترضة. وأثبتت التجارب السابقة أن «داعش» يجيد استخدام السلاح الإعلامي لاستقطاب ولاءات جديدة، سواء عبر تشجيع مزيد من «الجهاديين» على الانضمام إلى صفوفه أفراداً، أو عبر التأثير في بعض المجموعات المسلّحة المحليّة (في سوريا) ودفعها إلى «مبايعة الخلافة». ولا تستند هذه المحاولات إلى فراغ، إذ تؤكد معلومات ومعطيات متقاطعة أن التنظيم لم يتوقّف عن مد جسور في اتجاه المجموعات الصغيرة، عبر «أمنييه وشرعييه». وتكتسب مستجدات الميدان العراقي أهمية إضافية بفعل التزامن بينها وبين الانتصارات التي حقّقها «داعش» خلال الأيام الماضية في كلّ من دير الزور (حويجة صكر)، والبادية السورية (السّخنة، ومحيط تدمر). وينبغي الأخذ في الاعتبار أن للتنظيم تجارب سابقة ناجحة على صعيد امتصاص انكفاءاته، وإعادة ترتيب أوراقه وشن هجمات مضادة، لعل أبرزها تلك التي نفّذها إبّان تراجعه في ريف حلب أمام «جيش المجاهدين» وحلفائه مطلع العام الماضي، قبل أن يعيد تجميع قواته في الرقة وينطلق مجدداً لإعادة رسم خريطة السيطرة.
على هذا النهج، رسم المخططون العسكريون للتنظيم استراتيجيّة جديدة بعد الهزائم التي مُني بها في عين العرب (ريف حلب). وهي استراتيجية تعتبر العمق السوري حاملاً عسكريّاً أساسياً («الأخبار»، العدد 2574). وفي خضم المعارك التي يستمر «داعش» في خوضها ضد المجموعات «الإسلاميّة» الأخرى في منطقة المحسّة ومحيطها (ريف حمص الجنوبي الشرقي، وصولاً إلى أطراف القلمون الشرقيّة)، تأتي محاولاته للسيطرة على مدينة تدمر بمثابة مكمّل لا بد منه لتأمين نقطة ارتكاز خلفيّة، سواء للمعارك الحاليّة، أو تلك التي يبدو أن التنظيم مصمم على خوضها قريباً في القلمون الشرقي عموماً.

تأتي محاولات السيطرة
على تدمر بمثابة مكمّل لا بد منه لتأمين نقطة ارتكاز خلفيّة

فعلى الرغم من وجود قوات «داعشيّة» في تلك المناطق، وخلايا نائمة على مقربة منها (وصولاً إلى دمشق) غير أنّ أي تقدّم تحققه تلك القوات سيبدو مبتوراً، ومهدّداً بعدم الاستمرار ما لم يكن مدعوماً بقاعدة خلفيّة تضمن تأمين الإمدادات مستقبلاً. ولا يبدو أن اختيار تدمر هدفاً جديداً جاء بقرار اعتباطي، إذ تتمتّع المدينة بمزايا استراتيجية عدّة، تضمن للتنظيم مواصلة العمل على وصل مناطق نفوذه في كل من دير الزور، (ولاحقاً الرقّة) بريفي حمص وحماة اللذين يُشكلان واسطة العقد السوري، بحيث تُشكل المدينة التاريخية رأس مثلث قاعدتاه في دير الزور والرقّة، لـ«التمدّد» نحو مناطق جديدة. ومن شأن تمكن «داعش» من السيطرة على مدينة تدمر أن يتيح له تالياً ربط المحور الممتد منها إلى مدينة القريتين إلى جبال البتراء (القلمون الشرقي)، ما يعني الاقتراب من الضمير، ومحاولة العودة بقوّة إلى خريطة النفوذ العسكري في غوطة دمشق الشرقية. كذلك إن التحرّك انطلاقاً من تدمر نحو مدينة حسياء (ريف حمص الشرقي) سيتيح للتنظيم المتطرّف تهديد الطريق الدولي «حمص – دمشق»، وتعزيز قواته في القلمون الغربي عبر بوابتي قارة والجراجير اللتين تشهدان انتشاراً لمسلحي «داعش» في جرودهما. ولا يُعتبر تحرك «داعش» نحو تدمر المحاولة الأولى لبسط السيطرة على مناطق وسط سوريا، ففي هذا السياق تندرج هجماته المتكررة على حقل شاعر، ومطار «تي فور» العسكري، وكذلك مدينة سلمية.
علاوة على كل ما تقدّم، يُشكل البُعد التاريخي لمدينة تدمر عامل إغراء إضافي بالنسبة إلى «الخلافة». ويبدو من المسلّم به أن نجاح متطرفي «داعش» في الوصول إلى معالمها الأثريّة سيضع الرأي العام أمام فصول جديدة من مسلسل «تحطيم الأوثان» الذي يضيفُ رصيداً «عقائديّاً» كبيراً لصورة «الخلافة»، ويصبّ في خانة «استنهاض همم المسلمين لمناصرة جيش الخلافة الإسلاميّة»، وهو الهدف الذي أكّد مصدر مرتبط بالتنظيم أنّه «يأتي على رأس الأولويات».
المصدر قال لـ«الأخبار» إنّ «الخلافة لم تقُم أساساً إلا لهذا: إعلاء راية التوحيد، وتحطيم الأوثان والطواغيت. ونعتقدُ واللهُ حسيبُنا أنّ كلّ فتحٍ مُترافقٍ بتقويضٍ للوثنيات، وإباحة لدم الكفار سيُثلج صدر كل موحد، ويدفعُ كل قاعدٍ عن الجهاد إلى النفير لنيل نصيبه من الأجر والثواب». ميدانيّاً، أكّد المصدر نفسه أن التنظيم أحبط وصول إمدادات للجيش السوري، وتحدث المجاهدون عن تدمير عدد من دباباﺕ الجيش، وانسحاب عدد آخر إلى مطار «تي 4»، فيما تحدّث ناشطون عن وصول رتل عسكري لمؤازرة القوات السورية في تدمر. وكان الطيران السوري قد شنّ قرابة عشرين غارة على تمركزات التنظيم في حي العامرية، والضاحية الشرقية من المدينة. كذلك تناقلت مواقع «جهادية» أنباءً عن استقدام «داعش» إمدادات لـ«مؤازرة المجاهدين المرابطين بالقرب من سجن تدمر تمهيداً للسيطرة عليه».