غزة | بدراسة ومراجعة سريعة لاتجاهات هجرة الفلسطينيين ونزوحهم في عام 1948، وحتى 1967، فإن مصر كانت الأقل استقبالاً لهم، إذ توجهت غالبية سكان قرى ومدن الشمال إلى سوريا ولبنان، فيما سكان الوسط اتجهوا إلى الضفة المحتلة، فالأردن، وكذلك اتجه مئات الآلاف من جنوب فلسطين المحتلة إلى غزة... وقلة قليلة لا تتجاوز الآلاف هي التي دخلت سيناء، مع الأخذ في الاعتبار أن من دخلوا شبه الجزيرة الصحراوية هم من أصول بدوية، بناءً على الترابط القبلي ما بين قبائل سيناء وبئر السبع المحتلة!
يمكن مثلاً الإجابة ببساطة عن السبب بالنظر إلى أن الفلسطينيين كانوا على وعد العودة إلى بيوتهم خلال أسابيع وحتى أيام، ففضّلوا اللجوء في المرحلة الأولى إلى غزة والضفة، إضافة إلى أن الطبيعة الصحراوية لسيناء لم تكن مرغّبة في النزوح إليها. ولكن هذا وحده ليس دقيقاً، فاليوم، من ينظر إلى الحديث المصري عن القضية الفلسطينية، كما هو ظاهر عبر شاشات التلفاز ومؤتمرات القمة العربية، يرى أن رؤساءها كانوا طوال العقود الماضية يؤكدون أن بلادهم «قدمت 100 ألف شهيد من أجل القضية الفلسطينية»، ولكنها في المقابل لم تستقبل ربع هذا الرقم.
وتذكر مصادر في سيناء أن عدد السكان من أصول فلسطينية، حالياً، يبلغ نحو 35 ألفاً غالبيتهم من البدو، كما أن أكثر العشائر البدوية بعض أصولها تعود إلى بئر السبع، كقبيلة أبو عمرة البالغ عددها في سيناء 10 آلاف فرد، ولا يزال حتى الآن أبناء العائلة نفسها موزعين في غزة ومنطقة رهط في بئر السبع، جنوب النقب المحتل.
أسوأ من ذلك، فوثيقة السفر المصرية التي كانت تمنح للاجئ الفلسطيني، على خلاف نظيرتها اللبنانية أو الأردنية أو السورية (استبدلت بعض الدول الأخيرة إياها بجواز سفر مؤقت أو دائم)، لم تكن تخوّل الفلسطيني العودة إلى «المحروسة» إلا بالحصول على تأشيرة من سفاراتها.

لا يتعدى عدد الموجودين
حالياً في سيناء من أصول فلسطينية 35 ألفاً

ومن أجل الإنصاف، فإن العهد الذي حكم فيه جمال عبد الناصر، أُعطيت للفلسطينيين خلاله امتيازات كثيرة، كان أهمها مجانية التعليم، التي أتاحت للغزيين على وجه الخصوص التقدم في مستوى التعليم، ولكن هذا كله لم يشفع تجاه التعامل مع نظرية «احتواء الفلسطيني في مصر»، إذ إنه منذ 67 عاماً حتى الآن، لم يمنح الموجودون من أصول فلسطينية في سيناء هوية مصرية، أو حتى بطاقة تعريفية تشير إلى أصولهم، ويجري التعامل معهم على أنهم أصحاب أصول بدوية.
تواصلنا مع جمال الحور الذي يحمل اسماً حركياً هو «أبو نواس»، وذلك عادة من كانوا يعملون في «جيش منظمة التحرير». الملازم أول المُبعد من لبنان عام 1988 إلى تونس، هو من مواليد عام 1927 ومن بلدة الجورة المحتلة، ويقيم الآن في ولاية قيروان التونسية. يروي شهادته حينما كان يعمل تاجراً ما بين ميناء عكا وتجار مصريين في سيناء، فقد عاصر النكبة بكل لحظاتها وتنقل ما بين غزة والأردن ولبنان. يقول: «النكبة عام 1948 أصفها بأنها كانت اختباراً مبدئياً لنجاح الدولة الحُلم لليهود. فلو كانوا يعلمون أن العرب سيكتفون بالصمت، لأخرجوا كل الفلسطينيين من مناطقهم».
وبشأن الاستقبال المصري، قال الحور إن المصريين لم يرغبوا في التدخل في شأن جمع اللاجئين، وخاصة أن القادمين من مناطق فلسطين الوسطى والجنوبية حوصروا في غزة بناءً على تدخل الجنود المصريين الذين دخلوا غزة على أنهم سيحمون اللاجئين ويواجهون «العصابات الصهيونية»، ولكنهم كما يقول اكتفوا بدور الحامي للاجئين، بل كانوا أشبه بـ«الدلال» إلى بعض مناطق اللجوء، وحصروا الناس في مناطق قريبة من السكان الأصليين في غزة، على أن تحضر «الأمم المتحدة» لتتولى أمرهم، ثم على الجيش المصري الانسحاب إلى أرضه «سالماً من غير نقطة دم».
ويؤكد الملازم أول السابق أن رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا، الذي كان في عهد الملك فاروق، أصدر «قراراً سرياً» لبعض قيادات الجيش المصري أدى إلى «توغل الجيش في فلسطين دون أن يضع خطة عملية لفض الجماعات اليهودية المسلحة التي توزعت في صحراء النقب، إلى أن حاصرت تلك العصابات المصريين من جنوب القطاع وشماله، ما مهّد لاحقاً لتنفيذ مجازر بحقهم». كذلك أشار إلى أن «المخطط الإسرائيلي كان يرفض تجمع الفلسطينيين في مصر، وخاصة سيناء، وهذا ما كانت تحذر منه الجماعات الصهيونية المتطرفة بداية الخمسينيات، لأنها كانت ترى في سيناء أرضاً لأجدادها ويجب السيطرة عليها، وهذا ما جرى تنفيذه فعلاً بعد قرار تأميم قناة السويس ومشاركة الاحتلال في العدوان الثلاثي».
شهادة أخرى نقلها أحد اللاجئين إلى غزة ممن عملوا في الشرطة داخل القطاع تحت الإمرة المصرية، وكان يقتصر دورهم على الحماية وحراسة المفترقات. اسم هذا الرجل هو شوقي هتهت، المهجر من مدينة المجدل المحتلة (مواليد 1925)، وخدم مع المصريين منذ أواخر الخمسينيات حتى أواخر السبعينيات، ولكنه توقف عن العمل معهم بعد فرض تدخلات مصرية فظة في شؤون حماية اللاجئين.
ولا يخفي هتهت عبر اختلاطه مع المصريين أن القاهرة كانت تعتقد بأن الفلسطينيين يريدون الهجرة إلى سيناء تمهيداً لضمها إلى الدولة الفلسطينية، مستدركاً: «لم يدركوا أن إسرائيل تريد ما يريدونه، وها هم اليوم بعد أن أخفقوا في احتلال سيناء حوّلوها إلى صحراء قاحلة يجتاحها الإرهاب». ويستذكر هتهت أن التقسيم (سايكس ــ بيكو) تعمّد صنع خلاف فلسطيني ــ مصري حدودي، عبر تقسيم مدينة رفح إلى مدينة مصرية وأخرى فلسطينية، كما الحال في مناطق النزاع بين سوريا وتركيا (لواء الإسكندرون)، وبين السودان ومصر (حلايب). يتابع الرجل: «النظام الملكي في عهد فاروق كان ذا قرار واحد، فلو أمر جنوده بمهاجمة الفلسطينيين لأطاعوه... على عكس ما يمكن أن يحدث الآن رغم كل التحشيد والاتهامات».