دمشق | تختصر مجموعة من الباحثين المشهود لهم بالكفاءة والخبرة واقع الفقر في سوريا، بالإشارة إلى أنّ من بين كل خمسة سوريين، أربعة منهم فقراء. وحتى أكثر التقديرات تفاؤلاً، تؤكد أن معدل الفقر لا يقل عن 65%، والأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي تؤكد مثل هذه الاستنتاجات العلمية أصبحت معروفة.
لكن روتين الحياة الاقتصادية اليومية وتفاصيلها في كثير من المناطق السورية، ولا سيما الآمنة، لا يعكسان بنظر الكثيرين تلك الصورة المطبوعة في مخيلة كل منا عن المظاهر المرافقة للفقر والدالة عليه من جوع وحرمان وبؤس. فالأسواق الشعبية والعامة مليئة دائماً بالمتسوقين، زبائن المطاعم إلى ازدياد، والطلب على العقارات شراءً وإيجاراً حدّث ولا حرج... وغير ذلك، فأين هم الفقراء إذاً؟ وهل الفقر الذي تتناوله التقديرات وأبحاث المختصين مختلف عن ذلك الفقر القابع في مخيلة المواطنين؟ أم أن أنماط الاستهلاك «الظاهرة» للعيان، التي تتمحور في أنشطة الترفيه والتسوق وغيرها، تخص شرائح اقتصادية واجتماعية معينة؟

متعدد الأبعاد

يعود تاريخ آخر مسح رسمي لحالة الفقر إلى عام 2007، وآنذاك رفضت حكومة ناجي عطري نشر نتائجه، لأنها كانت تشكل إدانة صريحة للسياسات الاقتصادية الليبرالية التي نفذت على حساب الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، لكن ذلك لم يحل دون محاولة بعض الباحثين، ولا سيما ممن عمل منهم على إنجاز المسح السابق، من متابعة رصد تطور حالة الفقر في سوريا وتأثرها باستمرار تطبيق السياسات الليبرالية، ولاحقاً بتداعيات الأزمة وانعكاساتها الخطيرة على مختلف المستويات. وبحسب الباحث الاقتصادي زكي محشي، إن «حساب نسبة الفقر تتم من خلال تقدير التغيرات في الإنفاق الاستهلاكي الخاص الذي يتم حسابه كمكون من الناتج المحلي الإجمالي (جانب الطلب)، وهو المكون الرئيسي للطلب الاقتصادي ومؤشر للحالة المعيشية للأسر، وتالياً فأي تراجع في هذا الإنفاق ينعكس ارتفاعاً في نسبة الفقر». ويضيف في حديثه لـ«الأخبار» أنه نتيجة الأزمة «ونظراً إلى التراجع الحاد في النشاط الاقتصادي، وتالياً الطلب الاقتصادي وتدهور الناتج المحلي الإجمالي، فإن الاستهلاك الخاص تراجع كثيراً بنسبة تصل إلى 41.7% في نهاية عام 2014، مقارنة مع عام 2010.

أكثر التقديرات
تفاؤلاً تؤكد أن معدل الفقر لا يقل عن 65%


إضافة إلى ذلك، إن الارتفاع الكبير للأسعار انعكس سلباً على الحالة المعيشية للأسر، إذ ارتفعت الأسعار منذ بداية الأزمة حتى نهاية عام 2014 نحو أربع مرات ونصف مرة، وقد رفع ذلك خط الفقر الأعلى للأسرة إلى نحو 75 ألف ليرة سورية شهرياً، ومع فقدان جزء كبير من معيلي الأسر لأعمالهم كمصدر رئيسي للدخل وتالياً للإنفاق، يصعب على الكثير من الأسر الوصول إلى هذا الخط».
من جانبه يؤكد عميد المعهد العالي للدراسات السكانية في جامعة دمشق الدكتور أكرم القش، أن الفقر «لا يمكن قياسه بمؤشر واحد أو اثنين، أو التعبير عنه بمؤشر واحد هو الدخل. فالاتجاه العالمي هو لقياس الفقر وفق مؤشرات وأبعاد متعددة تتعلق بالدخل، الإنفاق، الصحة، التعليم... وغيرها، لا بل إن الفجوة بين الذكور والإناث تدخل كمؤشر أيضاً»، لكن القش يعود للتذكير بأن «الجميع يعترف في النهاية بأن الجوهر الأساسي للفقر هو الدخل، فالغاية الأساسية للبشر تلبية احتياجاتهم الرئيسية من طعام وشراب، ثم احتياجاتهم العامة من تعليم وصحة».
وعلى ذلك، إن الحالات التي يتبدى فيها الفقر بعد أربع سنوات من الحرب كثيرة، فالعائلات التي يمكن أن توفر أبسط احتياجاتها من الغذاء عبر معونات الإغاثة التي تحصل عليها، كما يحاول بعض المسؤولين الإيحاء بذلك رداً على نسب الفقر المعلنة، تعاني هي الأخرى فقراً من نوع آخر يتعلق بنوعية الغذاء وكميته، أو بمدى حصول أفرادها على التعليم، أو الرعاية الصحية المناسبة، أو بمدى حصولها على مياه نظيفة... وغيرها.

الانطباع الأول

إذاً، لا الحرب ولا الفقر استطاعا أن ينالا من استمرار أنماط استهلاكية معينة قوامها الإنفاق والبذخ. فعلى مقربة من بعض الجبهات المشتعلة في العاصمة دمشق والمدن الرئيسية، تزدحم العديد من المقاهي والمطاعم السياحية بزبائنها، تماماً كما هو حال الأسواق الشعبية التي لا تخلو من المتسوقين رغم أسعار سلعها وموادها، التي ارتفعت أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة، ولا ننسى كذلك حفلات الزواج التي هي في بعضها تأتي على شاكلة «ألف ليلة وليلة». وهنا يجزم الباحث محشي بأن «نسبة الفقر تشمل جميع المناطق في سوريا، الآمنة وغير الآمنة، وهناك محافظات منكوبة بالكامل، لكن هذا لا يعني عدم وجود نشاط اقتصادي في المناطق الآمنة، إذ إن الكثير من الأسر تسعى إلى تأمين حد الكفاف. أما الإنفاق على التسلية والتسوق، فهذا يقتصر على نسبة قليلة من السكان التي استطاعت التأقلم مع الأزمة من خلال توفير فرص عمل بديلة أو الاعتماد على التحويلات الخارجية. كذلك توجد أيضاً مظاهر للإنفاق الترفي في بعض الأماكن يمكن فهمها من خلال ازدياد عدد المنتفعين من اقتصاديات العنف، سواء بنحو مباشر أو غير مباشر»، وأكثر ما أفرزته الأزمة أنها «أثرت بشكل سلبي وكبير على عدالة التوزيع، فقد أفرزت وتفرز فئة قليلة من المنتفعين والمستفيدين منها، في مقابل الجزء الأكبر من السكان في كل أنحاء سوريا، الذي يعاني من تدهور كبير في حالته المعيشية».
يفضل الدكتور القش إعادة ترتيب أجزاء الصورة المتشكلة خلال سنوات الأزمة، فيبين أن تداعيات الأزمة الاقتصادية «قادت إلى حدوث ثلاثة متغيرات مهمة في تركيبة إنفاق السوريين. فالمتغير الأول تمثل بما يسمى تبديل مستوى الإنفاق ومركبات الاستهلاك. فالعائلة، تحت ضغط محاولتها الموازنة بين الموارد والنفقات أعادت النظر بأنماط الاستهلاك لتستغني عن بعضها لمصلحة البعض الآخر»، أما المتغير الثاني فيتعلق بتوجه العائلات السورية إلى «استهلاك جزء من مدخراتها أو كلها بغية تغطية العجز الحاصل بين دخلها وإنفاقها، تماماً كما تفعل الدولة. وللأسف طول الأزمة جعل البعض يستنزف مدخراته ويعاني من ضائقة مالية نراها اليوم بوضوح». ويعبر المتغير الثالث مباشرة عن حدة الضائقة المعيشية للعائلات التي «توقفت تلقائياً عن الإنفاق على أنماط استهلاكية معينة، ليس لأنها لا تريدها، بل لأنها لا تستطيع تحمل تكلفتها».
وهكذا يمكن الاستنتاج أن الإنفاق على التسلية والترفيه والتسوق والبذخ أحياناً مرتبط بشريحتين اجتماعيتين استفادتا من الأزمة بطريقة مختلفة. فالشريحة الأولى حافظت على دخلها وزادت عليه بفعل استثمارها في إفرازات الأزمة واستغلالها للظروف الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لها. وهذه الشريحة تشمل كثيراً من الأغنياء وأصحاب الأعمال والأنشطة الاقتصادية والخدمية. أما الشريحة الثانية، فقد ظهرت مع الأزمة وراكمت ثروات هائلة جراء انخراطها في «اقتصاديات العنف»، ولذلك كان من الطبيعي أن يقابل تلك الزيادة في الدخول والثروات زيادة في الإنفاق. وكما يرى عميد المعهد العالي للدراسات السكانية، فمن بين وسائل الاستجابة للأزمة «هناك استجابة غير طبيعية وتتمثل في التكيف على حساب الآخر، والشريحة الممارسة لهذا النوع من الاستجابة لم تختلف عليها أوضاع ما بعد الأزمة عما قبلها».