هي ثورة الفقراء على السلطة الفاسدة في اليمن. شاءت أن تكون بقيادة حركة «أنصار الله»، هؤلاء هم جزء من هذا الشعب الذي يتخبط أكثر من نصفه لملامسة خط الفقر. قرروا أن يخوضوا الحرب على أدوات الفساد الملتحفين بعباءة السعودية، واستطاعوا إنهاء سيف آل الأحمر الذي تسلط على رقاب العباد لعقود.لم يرق ذلك السعودية، أساساً هي ترفض يمناً قوياً في جنوبها، لا تقبل نهوض بلد لديه من الإمكانات والطاقات البشرية القادرة على تشكيل خطر سياسي وديموغرافي واقتصادي عليها. فكيف تقبل بـ«أنصار الله» التي لا تراها سوى ضلع إيراني في جنوبهم.

أرادتها السعودية حرباً عليهم، في السياسة عبر مزيد من الضرائب، وفي العسكر من خلال تحريك «القاعدة» والضباط الموالين للرئيس الفار عبد ربه منصور هادي.
خسرت الرياض الرهان. فشل هادي في معركتين وحوصر واستقال. كيف لا و«أنصارالله» ترفع شعار زيادة الرواتب، تحسين التعليم، زيادة ميزانية القطاع الطبي، ورفض المزيد من الضرائب. طبيعي أن يلتف الناس عليها أكثر، ربما «أنصار الله» وحدها في ثورات ما يسمى «الربيع العربي» من رفع شعارات الفقراء، لعلهم الوحيدون من قاد ثورة لأجل الشعب وليس لأجل كلمات الديموقراطية والحرية التي ملّ منها الناس. وحدهم وضعوا برنامجاً حقيقياً محدد الأهداف، يبدأ بتغيير رجال السلطة، وقف الفساد، تنمية الاقتصاد، وحل قضية الجنوب.
السعودية لا تبحث عن حلول وسطية مع «أنصار الله»، تهرّب هادي إلى الجنوب، تحقنه بجرعات من المعنويات، تعيده رئيساً بعد استقالته وتعومه أممياً.
يرتفع منسوب التوتر في البلاد، هادي وخلفه فضائيات الخليج يشعلون الفتن في الهواء، «القاعدة» بمتفرعاتها تموّل وتتعزز في محافظات الجنوب. السعودية تريد استنساخ النوذج الليبي في اليمن، والتفجيرات الانتحارية في صنعاء كانت إشارة البداية.
لم يعد ذلك مقبولاً عند «أنصار الله»، لم يكونوا بوارد الدخول إلى الجنوب لعلمهم بحساسية أهله تجاه هذه الخطوة، لكن الفتنة بدأت تطل برأسها. تحرك الجيش و»اللجان الشعبية»، وصلوا سريعاً إلى عدن، يهرب هادي إلى الرياض. «الشرعية» تسقط مجدداً، فيجن جنون أمراء السعودية. يختارون الحرب، خيّل لهم أنهم سينتصرون سريعاً، عبّأ بعضهم بعضاً على فكرة النصر. ظنوا أنهم سيشترون بمالهم باكستان ومصر فيرسلون جنود الدولتين للقتال عنهم، هكذا هم يفكرون، بمالهم يستطيعون شراء الفقراء. دخلوا المعركة حاسمين النصر، لتأتي الخيبات سريعاً. إسلام أباد والقاهرة ترفضان الاشتراك في حرب ليس لهما منها أي مصلحة سوى انعكاسات داخلية لا تحمد عقباها. لتجد السعودية نفسها وحدها في الميدان.
يحق لليمنيين الاحتفال ويليق بهم ذلك. هزموا السعودية من دون أن يشتبكوا مع قواتها مباشرة. ربما هي سابقة في تاريخ الحروب.
أداروا المعركة باقتدار، لم يسقطوا في هفوة الانفعال، عضوا على الجراح مرات أمام مشاهد موت أحبابهم، لم يتركوا مجالاً للغضب كي يتحكم بهم. أمتار كانت تفصلهم عن القوات السعودية على الحدود، كانوا يرونهم بأم العين واصطيادهم سهل المنال، ومع ذلك التزموا أوامر قادتهم بعدم فتح الجبهة.
26 يوماً لم ينل عدوان «عاصفة الحزم» من عزيمتهم. على العكس، بدوا أكثر إصراراً على المضي بالحرب على طريقتهم. عرفوا منذ البداية أن جنوب اليمن مفتاح الانتصار في معركتهم، والممسك بعدن كالممسك بصنعاء، ولا مجال للتهاون مع مخططات السعودية في جعل عدن «بنغازي 2» ومقراً لهادي ولاحقاً لقوات التحالف للانطلاق منها نحو محافظات الشمال. أجهضت الحركة هذا المخطط، وتمكنت من السيطرة على مناطق حيوية في عدن ومأرب وشبوة.
في هذه الحرب، الجيش اليمني كان بيضة القبان، اجتهدت فضائيات الخليج على شيطنته، بالقوة جرى نسبه إلى الرئيس السابق، علي عبد الله صالح. كل مفردات التشكيك بوطنيته ألصقت به. وكل هذا لا يتعدى ترهات العرض، منها تقسيم الجيش.
لنعد بضعة أشهر إلى الوراء. ألم ينته «أنصار الله» من قوة جيش آل الأحمر في محافظة عمران؟ ألم تُنهَ الفرقة الأولى مدرع التابعة لعلي محسن الأحمر في صنعاء؟ ألم يتم دخول وزارة الدفاع والسيطرة على الأمن القومي والسياسي منذ مدة؟ ألم يتم تعيين أحمد نجل الرئيس صالح وقائد الحرس الجمهوري سفيراً منذ زمن في الإمارات؟ ألا يعني ما تقدم أن الجيش تم تنظيفه من كل رواسب النظام القديم؟ من السخافة تبسيط الأمور والقول إن الجيش يدين بالولاء لصالح. هل يقاتل الجندي أو الضابط من أجل رجل خرج من السلطة نهائياً؟
«أنصار الله» كسبوا الحرب باقتدار، أوقفت السعودية الحرب بعدما وصلها من أكثر من مصدر أنها ستواجه أموراً لا تحمد عقباها. وصل للرياض من طريق روسيا وسلطنة عمان والولايات المتحدة أن «أنصار الله» باتوا على بعد أيام معدودات من ردهم القاسم على الغارات السعودية. قالوا لهم بالحرف الواحد احفظوا ماء وجهكم.
إيران أرسلت سفنها إلى خليج عدن ليس للاستعراض. كانت تقول للرياض إنها لن تقف متفرجة على غارات طائراتها على الشعب اليمني: تدخلك في الحرب لا يعني أن الساحة ستكون خالية لك في اليمن.
«أنصار الله» كانت قد قامت بالتعبئة اللازمة للمعركة البرية. المقاتلون بمئات الآلاف كانوا ينتظرون النقطة الصفر لبدء الهجوم، أما المفاجآت فكانت كثيرة وكفيلة بهز الرياض وفق ما يؤكد مصدر قيادي في الحركة لـ«الأخبار».
سيُحكى الكثير قريباً عن الحلول السياسية، والمبادرات والنقاط، هناك مبعوث أممي جديد من موريتانيا هو إسماعيل ولد الشيخ أحمد، شخصية معروفة بذكائها وديبلوماسيتها وعلاقتها القوية بالرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي استقبل بحفاوة قبل أسابيع في الرياض ووُعِد بالأموال من أجل تدعيم اقتصاد بلاده.
«أنصار الله» سيدخلون في المفاوضات من دون شك، لكن لن يقبلوا حتماً بثلاثة أمور: عودة هادي إلى صنعاء، مشاركة السعودية في الحوار، العودة إلى المبادرة الخليجية. وغير ذلك سيكون قابلاً للنقاش، ولا سيما اقتراح نقل الحوار إلى سلطنة عمان. وستواصل الحركة أيضاً معركتها ضد فلول هادي والمتطرفين في الجنوب حتى النهاية. هم لم يتوقفوا تحت الغارات، فكيف يتوقفون الآن والانهيارات بدأت في صفوف الطرف المقابل، ما استدعى تدخل سلاح الجو السعودي سريعاً.
السعودية فتحت حرباً، وعليها أن تبحث عن حلول لارتداداتها عليها، آل سعود يعلمون أكثر من غيرهم أن ما فعلوه في حربهم على اليمن لن يمر من دون هزات في المملكة. يحكى الآن عن خلافات ضمن العائلة، ويحكى عن تحميل المسؤوليات في فشل المعركة. وبعيداً عن العائلة يكفي أن تدخل مواقع التواصل الاجتماعي وتتابع المغردين والمدونين وسخطهم وغضبهم على قادة «عاصفة الحزم». اليوم نتابع اليمن، وغداً نتابع السعودية.