حركة «أنصار الله»، كما لاحظنا في القسم الأول من هذا المقال في أخبار الأمس، لا تمثّل، في معناها التاريخي الأساسي، حركة صعود طائفي زيدي، إلا بقدر ما أن الزيدية مذهب يمني، يمثّل ثقافة اليمن والشخصية اليمانية، وتشكّل استعادته المنسجمة مع الشافعية روح اليمن ونزوعها إلى الاستقلال الوطني الذي يبدأ من مستوى ثقافي، بالتحرر من الغزو الفكري الوهّابي؛ فالتحرر من الوهّابية هو مدخل التحرر من التبعية للسعودية والمنظومة الخليجية، وبناء الدولة الوطنية الحديثة.
وعلى خلفية تماهي الثورة اليمنية الراهنة بحركة التحرر الروحي الثقافي الوطني، توصّل «أنصار الله»، من موقعهم القيادي في تلك الثورة، إلى طراز جديد من الخطاب السياسي والممارسة السياسية الواعية بذاتها كدينامية تشتغل على بناء دولة مستقلة تعبر عن خصوصية واحتياجات الكيان اليمني العميق الغور في تاريخ العرب.
هذا الطموح نحو الاستقلال، هو المحرّك الرئيسي لثورة متجذّرة في قلب الضرورة التاريخية لنهضة اليمن، ما يمنح «أنصار الله» شرعية قيادة الحركة الوطنية، ويستقطب الأغلبية الساحقة من اليمنيين إلى صفوف الثورة الاستقلالية. ولعلنا نكتشف، في هذا البعد الروحي الثقافي الوطني المركّب، السرّ وراء عملية إعادة التموضع، التي جذبت الجيش اليمني وجمهور حزب المؤتمر ــــ الموالين، سابقاً، لعلي عبدالله صالح ــــ إلى الاندماج في قضية الثورة الاستقلالية. لا يستطيع العقل الاستعماري والرجعي والطائفي، بالطبع، أن يفهم تلك العملية المعقّدة من إعادة التموضع الاجتماعي السياسي؛ ولذلك، يصر ذلك العقل المسطّح على أن السبب الرئيسي في قوة «أنصار الله» يكمن في التحالف مع علي عبدالله صالح، بينما الأخير، فقد، موضوعياً، قواعده العسكرية والسياسية والجماهيرية، لصالح الثورة؛ يعجز آل سعود عن النظر إلى المجتمعات كبنى متغيرة، وإلى المواطنين كفاعلين اجتماعيين وأصحاب خيارات، وإنما كأتباع وعبيد. وعلى هذا، فلا يخطر لهم أن «جمهور علي عبد الله صالح» قد انحاز إلى الثورة، ولكن الرئيس السابق هو الذي «تآمر» مع السيد عبدالملك الحوثي. وهو ما وجد ترجمته في قرار دولي يعبّر، بدوره، عن عقلية تآمرية.
التهمة الثانية، البالغة السخافة والمهينة للشعب اليمني ــــ والتي يتم، للأسف، تداولها من قبل جانبي الصراع الإقليمي ــــ هي تلك التي تنظر إلى «أنصار الله»، لا بوصفهم قيادة وطنية لحركة استقلالية، بل كأداة إيرانية. هل تريد الثورة الاستقلالية اليمنية، حقاً، الانتقال من الهيمنة السعودية إلى الهيمنة الإيرانية؟ لو كان الأمر كذلك، لوقع «أنصار الله» في عزلة سياسية عن الشعب اليمني، تسمح بإلغائهم بالحرب. في الواقع، يلتف اليمنيون حول «أنصار الله» أو، أقلّه، لا يعارضون الثورة، لأنها منحتهم الأمل بالاستقلال والكرامة والعزّة. وهي قيمٌ نسيها الكثيرون من العرب، لكنها غير معروضة للبيع في اليمن، لا بالمساعدات ولا بالقرابة المذهبية.
لذلك كله، يسلك «أنصار الله» ــــ من دون عُقَد أو حسابات طائفية أو جهوية ــــ مسلكاً وطنياً، بالمعنيين، التحرري والوحدوي؛ أولاً، إنهم يسعون إلى الخلاص من الاستتباع السعودي، ولننتبه، ثانياً، إلى أنهم لا يقبلون بالتموضع في «مناطقهم»، والسيطرة عليها في تسوية طائفية وجهوية ــــ وهو حل على الطريقة اللبنانية، كانت السعودية ستقبل به ــــ كما أن واحداً من الأسباب الرئيسية لثورتهم هو رفضهم القاطع لتجزئة اليمن وفدرلته، وهي صيغة مقبولة من قبل قوى شيعية حاكمة في العراق!
تحرّكَ «أنصار الله» كحركة ثورية وطنية؛ أطاحوا بقيادات عسكرية فاسدة وعميلة، واستردوا الجيش الوطني، واعتبروا أن كل أرضٍ في اليمن، بغض النظر عن المذهب والقبيلة والجهة، هي أرضهم التي يُستَشهَدون لتحريرها من الوهّابيين والإرهابيين والشبكات العميلة لآل سعود. لكن، تظل، لدينا، ثلاث ملاحظات على «أنصار الله»، الأولى، في الشعارات الأساسية. إذ لا يجوز لحركة تحرر وطني أن تتضمن شعاراتها شيئاً عنصرياً مثل «اللعنة على اليهود»؛ فالإقصاء والتكفير يبدآن، عادة، بالبعيد، ثم ينتقلان إلى القريب. وفي اليمن يهود من أهل البلد، فحين يلعن المسلم اليماني، اليهود، فهذا يشبه ما يقوله التكفيريون في الشام عن المسيحيين.
وتتعلق الملاحظة الثانية، بضرورة التطابق بين مضمون الثورة وصورتها؛ فالمحتوى الاستقلالي الوطني لا بدّ له من أن يأخذ شكلاً سياسياً وطنياً مطابقاً. وتقع هذه المهمة على «أنصار الله»، المتوقّع منهم أن يبادروا إلى إقامة جبهة وطنية، تندرج فيها كل القوى والتيارات اليمنية المؤيدة للثورة، وتشكّل، بالتالي، طرفاً واحداً للحوار السياسي مع الأطراف اليمنية الأخرى والقوى الإقليمية والدولية.
ولعل ملاحظتنا الأخيرة أن تكون الأهم، لأنها تتعلق بقضية الجنوب؛ لا نغفل، أبداً، جهود «أنصار الله» في البحث عن حلفاء من ممثلي الجنوب، بما في ذلك محاولاتهم التي لم يكتب لها النجاح في التحالف مع الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق، علي ناصر محمد. كذلك، ليس لدينا شك بصدقية إعلان «أنصار الله « بأن قتالهم في المحافظات الجنوبية، يستهدف إرهابيي «القاعدة» والوهابيين، ولا يستهدف إخضاع الجنوب. ولكن تظهير هذا الموقف بجلاء، وتلافي قيام صراع جهوي، يتطلبان استقامة الخطاب السياسي لـ «أنصار الله»، في اتجاه الإعلان الصريح عن حق جنوب اليمن في تقرير المصير؛ فحركة الانفصال الجنوبية ليست، أيضاً، مؤامرة أقلية، بل هي تعبر عن تيار شعبي واسع له الحق في تقرير مصيره. هذا لا يعني العمل ضد الانفصال؛ غير أن النجاح في تحقيق وحدة طوعية واندماجية للبلاد، يتطلب، أولاً، الاعتراف بحق الاختيار.