السويداء | «عاداتنا نمليَ الحلّة... يومَ المِتاريس منصوبة». هي جملةٌ ممّا سمعناه من الشعر الشعبي في ليل السويداء المهيب، يمكنها أن تكونَ عنواناً لمرحلة تعيشُها عروس جبل العرب. الحرب التي تدور على مقربة من الجبل، وتقترب نيرانُها منه شيئاً فشيئاً لم تحُل بين كلّ ما فيه واستقبال ضيوفه بأكبر قدر من الودّ يمكن أن يتخيّله واحدُنا. كلّ شيء يبتسمُ في وجهكَ هنا ويهتف «يا حيّ الله». اللطفُ الهائل الذي يغمرك به أبناء السويداء كفيلٌ بأن ينسيكَ لبعض الوقت حجمَ القسوة الذي ترزح البلاد تحتها منذ سنوات.
دمشق ما زالت قريبة

الحافلةُ التي انطلقت بنا من دمشق لم تستغرق من الوقت أكثر من ساعة ونصف ساعة للوصول إلى السويداء، قاطعةً حوالى 100 كيلومتر وسبعة حواجز. وهو وقت قصيرٌ بالنظر إلى ظروف الحرب التي ضاعفَت المسافات بين المدن السوريّة.
أبرز ما يلفت النظر بعد جولة أولى سريعة في المدينة خلوُّها من كثير من المظاهر التي تطغى على معظم المدن السّوريّة. لن تشاهدَ هنا شبّاناً يرتدون اللباس العسكري ويجولون في الأسواق، أو يجلسون في المقاهي، أو يلاحقونَ بأنظارهم المارّة وخاصةً الفتيات منهم. لن تسمعَ أصوات إطلاق رصاص بسبب أو من دونه. «للسّلاح واللباس العسكري وظائف معروفة، ليس من بينها الاستعراض»، هكذا يوجز لاحقاً أحدُ مُضيفينا. لا تبدو لهجتنا المختلفة عن اللهجة المحليّة المُحبّبة مدعاةً للفضول، والسبب الرئيسُ أنّ السويداء استقبلَت منذ العام الأوّل للأزمة نازحين من مختلف المحافظات: من الجارة المشتعلة درعا، ومن ريف دمشق، وحتّى من حلب. أحمد، أحد أبناء حلب يقول لـ «الأخبار» إنّه استقرّ وعائلته هنا منذ العام 2013. يوضح الشاب أنّ العائلة حاولت أوّل الأمر أن تسكن دمشق، لكن «السويداء أرحم. برغم أن الغلاء لم يوفّرها، لكنه لا يُقارن بجنون الأسعار في العاصمة. بعدين هون ما حدا بيزعج حدا». كلامٌ تؤكّده جولتنا، فمعظم أسعار السّلع أقلّ من نظائرها في دمشق، وحلب، واللاذقية، وطرطوس. برغم ذلك، فقد تضاعفت الأسعار مرّات ومرّات، وهو أمر ناجمٌ بطبيعة الحال عن التدهور الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، وعن «جشع التجار» الذي يتوافق الجميع على ذمّه. سيلفتُ نظركَ أيضاً أنّ الطابع العام هنا يميل إلى البساطة في كل شيء، بما في ذلك التنمية والخدمات، إذ تبدو المدينة واحدة من المدن المظلومة على هذا الصعيد. برغم ذلك، فالنظافة عنوان لكلّ ما يحيط بنا.

الحرب تتجوّل قريباً

ثمّة توجس وحذرٌ يفرضان حضورَهما لدى الحديث عن كلّ ما يتصل بالحرب. ستسمع كلاماً متشابهاً عن اعتداءات المسلّحين في الجارة درعا، عن قذائف هاون سقطت آخرها في لبّين (الريف الشمالي الغربي)، وحالات اختطاف كانت آخرُها في عِرى (الريف الجنوبي الغربي). يتحدّث الجميع أيضاً عن تهديدات «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة»، و«حركة المُثنّى»، كما عن اقتراب تنظيم «الدولة الإسلاميّة» (داعش). ثمّة همسات حذرة عن «استخدام النظام لغول المتطرّفين»، وفق تعبير عزّام، لكنّ معظم من تحدّثت إليهم «الأخبار» يسخر من هذه النّظريات. يؤكد فراس أنّ «هذا الكلام بضاعةٌ قديمة، لم تعد تُقنع أحداً».

ثمّة توجس وحذرٌ لدى الحديث عن كلّ ما يتصل بالحرب

ويرى عصام أن «مروّجي هذا الكلام هم إمّا متعامون عن الحقيقة، أو أصحاب نيّات خبيثة. كأنّهم لم يروا ما حلّ بسوانا». القلق، لا يعني أن الخوفَ حاضرٌ هُنا «نحن أبناء الجبل، الحرب لُعبتنا إذا اضطررنا» يقول عصام. وهو كلامٌ تكرّر مرّات عدّة تصريحاً وتلميحاً في معظم الأحاديث التي يُمكن اختصارها بجملةٍ واحدة: «لم، ولن نعتدي على أحد، لكن الويل لمن يهاجمُنا». من المظاهر اللافتة، انتشار الزي التقليدي لطائفة الموحدين الدروز، على نحو كبير بين شبّان المدينة. يبدو الأمر أشبه بتعبير عن التمسك بالهوية، ويماثلُه في ذلك «ازدياد نسبة الشبّان الراغبين بالحصول على إذن للانخراط في الشأن الديني خلال السنتين الأخيرتين»، وفقاً لمضيفينا. وهو أمرٌ يُمكن إدراجه على الأرجح في خانة انعكاسات الحرب الدائرة في البلاد، والتي تُهدّد باجتثاث الأقليّات وعقائدهم.

الشعر ليس ضيفاً

على امتداد ثلاثة أيّام احتفت السويداء بذكرى جلاء الفرنسيين على طريقتِها. مديريّة الثقافة أقامت «مهرجان سلطان الأطرش الإبداعي الأوّل». والثقافة في السويداء ليست حدثاً عابراً، بقدر ما هي تفصيل حاضرٌ دائماً، وكما كان الحال قبل الحرب، استمرّ في غمارها: النشاطات تحظى بحضور كبير من مختلف الأعمار والمشارب، وذائقة الجمهور عالية. ووفقاً لمدير الثقافة الشاعر منصور حرب هنيدي فإنّ «عدد شعراء المدينة لا يقلّ عن الألفين. وعلاوة عليهم يكاد لا يخلو بيت من فردٍ ينظم الشّعر الشعبي».

لا «بيك» في حضرة «الباشا»

زيارة صرح الثورة السورية، وضريح قائدها سلطان باشا الأطرش (1891 – 1982) كانت ركناً أساسيّاً من أركان الاحتفاء به. أبناء بلدةُ القريّا (20 كيلومتراً جنوب السويداء) تزيّنوا كما يليق بالمناسبة وصاحبها، ليبدو الأمر أشبه بصبيحة عيد حقيقي. أمام النصب أدّت فرقةٌ من الأطفال رقصاتٍ بديعةً باللباس التقليدي، قبل أن ندخل الصَّرح ونقفَ أمام ضريح الرّجل الذي قادة الثورة السورية الكُبرى. ثورة لم يختلف أحد على «شرعيّتها»، ويتفاخرُ أبناء الجبل بأنّ قائدها رفع شعار «الدين لله والوطن للجميع». كذلك، يضم متحف الثورة السورية أسلحةً عرفَت وجهتَها جيّداً. يحظى «الباشا» بتقدير بالغ لدى الجميع، ولا يكفّون عن سرد كثير من مآثره أثناء الثورة، وبعدها، وعلى رأسها زهده في المناصب. وستتكرّر على مسامعك هنا قصّة بعينها كدلالة على «أخلاق الثائر الحقيقي». مفادُها أنّ موظفي المصرف الزراعي في السويداء فوجئوا منتصف السبعينيات بطلبٍ مُقدّم للحصول على قرض تسليف زراعي، ولم يكن صاحب الطلب سوى سلطان باشا الأطرش! يومَها، أوعز مدير المصرف إلى موظفيه بالانتقال جميعاً إلى بيت «الباشا» ليستكملوا أوراق القرض هناك بدلاً من حضوره إلى المصرف. أمام حكايات كهذه، نتردّد قليلاً في طرح سؤال يراودنا، قبل أن نحسم أمرنا ونسأل أخيراً عن «الزعامات الدرزيّة» اليوم، ونذكر على وجه التحديد وليد بيك جنبلاط. ليأتي ردّ أحد مضيفينا مشفوعاً بابتسامة يختلط فيها الاستغرب بالسخرية قبل أن يقول: «مَن؟... لا بيك في حضرة الباشا يا جماعة».