تونس | "للأسف إن صحافتنا العلمية تحتضر، ومشكلتها ليست في الطباعة، بل في المنتج العلمي ذاته، إذ إننا لا ننتج المعرفة كما أننا لم نعد نترجم الانتاج العلمي لغيرنا، إذ إن مجموع ما ترجمناه كعرب، خلال السنوات السابقة، لا يزيد عن عشرة آلاف كتاب، وهو لم يزد بمجموعه عمّا ترجمته إسبانيا خلال عامٍ واحد!". كان هذا جزءاً من ورقة علمية للباحث التونسي، مصطفى بوليلة، في اليوم الثاني للملتقى العلمي حول مستقبل الصحافة المكتوبة (المنعقد في تونس العاصمة منذ يومين)، إذ أكدت دراسته أن واقع "الصحافة العربية العلمية" لا يقل سوءاً عن واقع بقية النشريات المطبوعة بالعالم العربي.
كذلك سنشهد في تغطية جلسات اليوم الثاني للملتقى دراسات مختلفة، بعضها ناقض البعض الآخر، فيما حظي جزء مهم منها بأهمية خاصة، كونه سعى إلى تقديم "حلولٍ جديدة غير تقليدية" لـ"إنقاذ الصحافة المكتوبة"، ومن بينها اللجوء إلى الصحافة المجانية كجانب ترويجي، أو حتى التحول إلى هذا النوع من الصحافة، إضافة إلى غيرها من الأوراق العلمية.

بداية متأخرة

إنها الساعة التاسعة صباحاً، موعد انطلاق اليوم الثالث للمؤتمر: لم تأتِ غالبية الأكاديميين المشاركين في المؤتمر، كذلك فإن غالبية المقاعد كانت خالية من الجمهور. بدأت الجلسات متأخرة نصف ساعة عن الموعد، فيما بدأت تمتلئ المقاعد المخصصة للجمهور بعد ساعة ونصف تقريباً من بدء الجلسات. كان شكل القاعة متغيراً عمّا كانت الحال عليه أمس: وُضع الباحثون المدعوون إلى المؤتمر حول طاولة خاصة على شكل حرف U باللغة الإنجليزية، مع توفير "مايكروفون" أمام كل واحدٍ منهم لتقديم تساؤلاته واستفساراته إلى الباحثين الذين يقدمون أوراق عملهم العلمية.
كان عرض ورقة العمل الأولى للأكاديمي المصري الأستاذ في "جامعة قابوس" في عمان، الدكتور حسني محمد نصر، حول "الصحافة المجانية"، إذ أجرى بحثاً مع زميل عماني حول هذا النوع من الصحافة، مشيراً خلال عرضه إلى أنه "قد يكون للصحف المجانية مستقبل كبير، من حيث تعويض خسائر الصحافة المطبوعة التقليدية"، حيث إن انخفاض مقروئية الصحف الورقية عالمياً أدى إلى غياب العديد من الصحف الورقية عن نسخها المطبوعة لتتحول إلى رقمية، وقد مهّد هذا الأمر إلى ظهور هذا النوع من الصحف، الذي شهد إقبالاً كبيراً عليه من قبل الجمهور.
وتابع نصر: "دفع نجاح هذا النوع من الصحف المجانية إلى إثارة تساؤلات الباحثين والمختصين، إذ إن بعضهم يرى أن من الممكن أن تكون هذه الصحف وسيلة لاستعادة وتعويض نقص القراء لدى الصحف التقليدية، الذين انصرفوا عنها بنسبة كبيرة، وهو رأي أتفق معه. ففي عُمان مثلاً، تصدر أكبر الصحف المجانية في العالم العربي وأكثرها عدداً أيضاً، حيثُ يوجد فيها 12 صحيفة مجانية، من بينها الأسبوع وفيتون، ثمان منها تحريرية ــ أي فيها مواد إعلامية ــ وأربع منها إعلانية، تحتوي على الإعلانات بشكلٍ أساسي، وصدرت من خلال دور نشر لم يكن لها سابقة في العمل في إصدار الصحف من أي نوع".
ولفت نصر إلى أن ظاهرة الصحف القديمة قد بدأت منذ القرن التاسع عشر، في ظل الثورة الصناعية، لتشهد تطوراً كبيراً في أربعينيات القرن الماضي، لتتطور في الثمانينيات في العالم الغربي بشكلٍ كبير، حيثُ إن أهم صحيفة مجانية في العالم هي صحيفة "مترو" السويدية، ولها إصدارات بلغات عديدة في العديد من دول العالم. في إسبانيا: تستحوذ على سوق كبيرة، فهناك مثلاً، تمثل الصحف المجانية 40% من الصحف المطبوعة. وقد صدرت في الإمارات أول صحيفة توزع مجاناً في العالم العربي عام 2003، ثم صدرت الثانية في عمان بعدها بشهور، لتتطور بشكل لا بأس به في بعض الدول العربية، فيما كان حظ الباحثة التونسية، نهى بلعيد، خلال تقديم ورقتها عاثراً، إذ تعطل جهاز الحاسوب مرات عدة خلال عرضها، الذي كان ملخصه أن الاقبال على الصحف المجانية في تونس من قبل الجمهور سببه "أنه لا يريد أن يشتري مجلات أو صحفاً مطبوعة، في ظل توافر البدائل في الصحافة الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي".
من جهته، علق رئيس الجلسة، الدكتور محمد حمدان، على العرضين الأخيرين بالقول إن "ما طرحه الزميلان في ورقتيهما العلميتين هو أن الحل للصحف المطبوعة هو أن تكون مجانية، مع البحث عن مصادر تمويل لها. هذا الأمر فعلياً غير ممكن، لأن الغالبية من هذه المجلات موجودة في دول الخليج التي تمتلك قوة اقتصادية ورؤوس أموال قوية قادرة على دعم هذا النوع من الصحف!".
كذلك علّق الأكاديمي الجزائري، الدكتور نصر الدين العياضي، في مداخلته بهذا الشأن، منتقداً احتمالية التوجه إلى "الصحافة المجانية" كحل من حلول "إنقاذ" الصحافة المطبوعة، حيثُ أكد أن الصحافة المجانية في أوروبا تواجه حالياً أزمة حقيقية في ظل انخفاض نسبة ما تحصل عليه من إعلانات، وهو ما أدى إلى تراجع شديد لديها، بحكم أن الإعلانات هي وسيلة التمويل الرئيسية لدى هذا النوع من النشريات.

"صحافتنا العلمية تحتضر..!"

أما الباحث التونسي، مصطفى بوليلة، في ورقته العلمية "الصحافة العلمية: أزمة في العرض والطلب"، فأكد أن واقع الصحافة العلمية العربية "واقع صعب للغاية"، وأنه "أقرب للاحتضار"، رغم أهمية الصحافة العلمية في المجتمعات الغربية التي تعدّ "مجتمعات معرفة"، وفقاً لمعادلة "الأقوى علمياً هو الأقوى اقتصادياً والعكس صحيح".
وذكر الباحث بوليلة عدداً من الأرقام والإحصائيات التي تدلل على ذلك؛ فالولايات المتحدة ــ التي تعدّ القوة الأولى اقتصادياً وسياسياً على مستوى العالم ــ تنشر 220 ألف مقالة علمية في السنة، فيما تعدّ الصين ــ ثاني أقوى قوة اقتصادية عالمياً ــ أكبر قوة علمية في العالم بمقدار مليون و200 ألف باحث صيني، في حين ان المشهد مظلم تماماً في العالم العربي للأسف الشديد في ما يتعلق بالنشريات العلمية، نظراً إلى تراجع عملية البحث العلمي والترجمة في العالم العربي بشكلٍ كبير.
خلال عرضه، طلب رئيس الجلسة العلمية من بوليلة أن يتوقف، لأن الوقت المخصص له انتهى، فطلب منحه دقيقة واحدة، امتدت لثلاث دقائق! قال له رئيس الجلسة بشكلٍ صارم ساعتها: "يكفي! نرجو احترام الوقت..!". اختلس الرجل دقيقتين، متجاهلاً إلحاح رئيس الجلسة، قبل أن ينهي مداخلته، وسط تعالي ضحكات الحاضرين. ابتسم رئيس الجلسة وهو يقول "المعذرة. يضطر رئيس الجلسة أحياناً لأن يكون ديكتاتورياً للحفاظ على الوقت".

"تويتر": المفضّل لدى الصحافيين السعوديين!

كانت الورقة العلمية التي قدمها الأستاذ في "جامعة الملك سعود"، الدكتور أسامة نصار، في دراسة له حول استخدام الإعلام لوسائل التواصل الاجتماعي في الصحف المطبوعة والإلكترونية مشوقة حقاً، وقد قدمها بشكلٍ جذاب من خلال الأشكال البيانية الجذابة عبر "البوربوينت"، والتي ساهمت في تبسيط الكثير من المعطيات للجمهور بمنتهى البساطة.
كانت المعطيات التي قدمها تشير إلى أن نسبة 60% من الصحافيين السعوديين تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي من ساعتين إلى ثلاث ساعات يومياً على الأقل، "بهدف التواصل مع الأصدقاء بشكلٍ عام والتسلية والمتعة كغرض أساسي"، إضافة إلى سعيهم لمعرفة ردود أفعال الجمهور، وضمان الانتشار لإنتاجهم الإعلامي.
وبحسب الدراسة، التي أجراها نصار، فإن موقع "تويتر" هو الأكثر تأثيراً لدى الصحافيين السعوديين ــ والذي يستخدمونه بالدرجة الأولى أيضاَ لترويج أعمالهم ــ ثم "انستغرام"، والمفاجأة أن "فايسبوك" لا يمثل أهمية كبرى بالنسبة إلى الصحافيين السعوديين! كذلك أشار نصار إلى أن "تويتر" قد تسبب في إقالة مسؤول سعودي، فيما ساعد "انستغرام" على الإمساك بمجرم اعتدى على فتاة بالسلاح الأبيض خلال ثلاث ساعات فقط، من خلال متابعة أحد الهواة الذي تمكن من تصوير الجاني بكاميرا هاتفه المحمول، ونشر الصورة على الموقع المذكور، ليتم التعرف على هويته والقبض عليه!
وجاءت مداخلتان في الجلسة الأخيرة من اليوم الثاني، أولاهما للأكاديمي المصري المحاضر في "جامعة الشيخ زايد" في الإمارات العربية المتحدة، السيد بخيت، والأخرى للدكتور عبد القادر حموش، من "جامعة قالمة" في الجزائر. وقد حملت كلتاهما نظرة تفاؤلية بخصوص واقع الصحافة المكتوبة، على الرغم من تراجعها في مختلف أرجاء العالم، حيثُ قال بخيت إنه يمكن الحصول على الموارد المالية للصحف من الانترنت من خلال وضع اشتراكات لها، فضلاً عن وضع خدمات جديدة، للمزج بين الوسائل القديمة والحديثة في التغطية، ما سيؤدي في النهاية إلى رواج كبير للصحف.
أما حموش، فأكد الطرح التفاؤلي الذي قدمه بخيت، مشيراً إلى أنّ هنالك "إعادة تشكيل لجمهور الصحافة المكتوبة في الجزائر" ساهم بها الانترنت "ونجح في دعم عالم الصحافة ولم ينتقص منه"، إذ إنه نجح مثلاً في إلغاء حاجز المكان، كما ألغى حاجز اللغة، وقام بتوفير نفقات العمل الصحافي، وتطوير آليات الدوام والعمل في مؤسسات الصحافة المكتوبة التقليدية، بشكلٍ وفر الكثير من الوقت والجهد.
وتابع حموش أنّ "هنالك إقبالاً كبيراً للجمهور الذي بدأ يقرأ الصحف بنسختها الإلكترونية، والغريب أن هذا الجمهور لم يكن يقرأ الصحف الورقية، مما يعني أن مخاوفنا لا مبرر لها سوى استيراد مخاوف الغرب كما هي، دون مقارنتها بواقعنا المعيش. إن انتقال الصحافة من الورق وحده إلى الانترنت ليس مؤشراً مخيفاً، بل هو يمثل تطوراً طبيعياً ومقبولاً للصحافة وواقعها".
وعلى النقيض تماماً، جاءت ورقة بحثية للدكتور محمد بوعمامة، من "جامعة مستغانم" بالجزائر، والتي ألقاها زميله الجزائري أيضاً محمد مساهل ــ نظراً إلى عدم تمكن زميله من القدوم لظروف طارئة ــ حيثُ أكدت دراسة بوعمامة أن "الشباب الجزائري لم يعد يطالع الصحافة المكتوبة، وأن هذه الصحافة بحاجة إلى إيجاد حلولٍ عاجلة لإنقاذ ذاتها"، لنعود إلى المربع الأول الذي تحدثنا عنه أمس، تحت هاجس أن "الصحافة المكتوبة في خطر"، وهي وجهة النظر التي يتفق عليها السواد الأعظم من الباحثين الحاضرين في المؤتمر! وننطلق إلى الغد، بانتظار تغطية اليوم الثالث والأخير من المؤتمر، الذي لا يزال يحاول تقديم المزيد من الأطروحات حول مستقبل الصحافة المكتوبة، وفهم تحولاتها الحالية.