لا تزال مؤسسات النظام العالمي المتقادم، والمؤسسات المتفرعة الوكيلة عنها في أنحاء العالم، تقدم أدلة جديدة على تكلسها وانعدام قابليتها للتكيف مع المتغيرات. فبعدما وجهت «مجموعة الـ24» التي تمثل الدول النامية انتقادات لاذعة إلى الولايات المتحدة لتمنّعها عن إصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بما يعكس الأوزان الجديدة للدول تلك ومصالحها، وذلك على هامش «اجتماعات الربيع» للمؤسستين المذكورتين المنعقدة في واشنطن أواخر الأسبوع الماضي، أُعلن توقيع صندوق النقد العربي ومجموعة البنك الدولي «إطار الشراكة المُعزَّزة»، بما يعكس إصرار المؤسستين على المضي قدماً في السياسات نفسها التي أدت إلى تردي الواقع الاجتماعي-الاقتصادي للدول العربية، حيث شكلت جيوش المفقَرين والعاطلين من العمل الوقود للصراعات التي تفجرت في «الربيع العربي».
"نكرر التعبير عن خيبتنا العميقة من عدم تحقيق تقدم في تطبيق إصلاح الحصص والحوكمة في صندوق النقد الدولي الذي أقر عام 2010، ونحض الولايات المتحدة على تصديقه... هذا الأمر ما زال عقبة أمام صدقية صندوق النقد الدولي وشرعيته وفعاليته، وهو أخّر كثيراً بعض الالتزامات، وخصوصا صياغة جديدة للحصص (حصص الدول في المؤسسات تلك، وحقوق التصويت) ومراجعتها". جاء ذلك في بيان «مجموعة الـ24» الذي نُشر خلال انعقاد الجمعية نصف السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن نهاية الأسبوع الماضي، التي خيم عليها شبح «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية»، الذي ترى فيه واشنطن منافساً خطراً لمؤسساتها المذكورة، وتهديداً لهيمنتها المالية التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان الباحثان في «مركز التنمية الشاملة» سكوت موريس ومادلين غليف، قد أشارا في مقال نُشر في آذار الماضي إلى «تناقاض بين مصرف غارق في أفكاره القديمة (البنك الدولي)، والتغييرات المالية في الدول النامية»، مشيرين إلى أنه يجب إصلاح البنك الدولي، وإلا فإنه "سيبدو غير مهم"، إزاء صعود «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية»، بعد مصارف إقليمية عدة كالبنك الأفريقي للتنمية.
غير أن المؤسسات المالية الإقليمية المتفرعة عن النظام المالي العالمي المتقادم لا تزال تتعامى عن التحولات الاقتصادية-السياسية الكبيرة التي تعصف بالعالم؛ فلا يزال «صندوق النقد العربي» مثلاً أسير وصفات صندوق النقد الدولي، الذي رفض مراجعة سياساته فعلياً بعدما ظهّرت الانتفاضات العربية نتائجها الكارثية. فبُعيد اختتام «اجتماعات الربيع» في واشنطن، أُعلن توقيع صندوق النقد العربي ومجموعة البنك الدولي «إطار الشراكة المُعزَّزة» الذي يهدف ـ بحسب المؤسستين ـ إلى مساعدة بلدان منطقة «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» في تنمية اقتصاداتها وأسواقها المالية. وينص الاتفاق على صوغ استراتيجيات مشتركة لتنمية الأسواق المالية والتجارة في ما بينها، ودعم برامج «الاستقرار» الاقتصادي، و«تسريع وتيرة النمو الاقتصادي الشامل، وخلق فرص العمل في المنطقة»! وفي كلام كأنه يأتي خارج الزمان والمكان اللذين نعيشهما، قال حافظ غانم، نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: "لقد تعاوَن البنك الدولي وصندوق النقد العربي في عدد من المبادرات على مدار السنوات الماضية، وفي ضوء تعاوننا المثمر في الماضي، فإننا هنا لتوطيد هذه الشراكة وتقويتها"! وفيما اعتبر تقرير صدر عن صندوق النقد الدولي يوم أمس أن «الأولوية القصوى» في المنطقة لا تزال «توفير الوظائف»، دون أن يذكر (بالطبع) أن ذلك يتطلب أساساً بناء قطاعات إنتاج السلع والخدمات الحقيقية، لا يستطيع أحد أن ينكر أن السياسات المتبعة في الدول العربية في العقدين الماضيين على الأقل، بإشراف مؤسسات واشنطن تلك، قد أدت إلى العكس تماماً من الهدف المعلن هذا، حيث نتج من سياسات «التوازن المالي» و«الإصلاح الهيكلي» تدهوراً كبيراً في البنى التحتية والقطاعات الإنتاجية، وتآكلاً خطيراً في جهاز الدولة نفسها.