حينما كنتُ صغيراً كانت أشياءُ كثيرةٌ تعجبني، لكنها لم تكن لتعجب أمي البتة؛ فعلى ما يبدو أنني كنت أهوى الألعاب التي تميل إلى النواحي "العنيفة" من الأشياء، كأغلب أبناء المخيم. كانت ألعاب الأطفال هنا أشبه بالحروب منها "بالألعاب" اللطيفة التي يتعاطاها الأطفال الآخرون. يعشق الاطفال الفلسطينيون غالباً عنفهم الطفولي، لربما لم يبلغ أي شعب هذا الحد من العنف، قدر الاطفال الفلسطينيين في ألعابهم البسيطة. أما لماذا؟ فلا اعرف. ولن أغامر بالتحليل.
المهم، كنا نلعب ألعاباً لا أعتقد أن غيرنا كان يمارسها، بهذه الطريقة على الأقل. كانت أمي تراقبني دائماً من شرفة المنزل صارخةً بيأس كلما شاهدتني أتجه مع اصحابي للمشاركة بإحدى ألعابي المفضّلة. ذلك انها كانت متأكدةً أن لا حلَّ إلا بقبول فكرة مشاركتي في تلك "الأولمبياد" المخيمجية. كانت تصرخ صراخ من اقتنع ان لا مناص من القبول: "توسخش تيابك... وتتأخرش".
كانت أكثر الألعاب إثارة للاهتمام هي لعبة "الاحتلال". هي فكرة أكثر من اعتياديةٍ بالنسبة إلى شعبٍ يبدو معظمه أقرب إلى المقاتلين منهم إلى الأناس العاديين، فضلاً عن اهتمام معظم الكبار (إن لم نقل كلّهم) بالمقاومة والسلاح؛ حتى إنه لا يخلو بيتٌ أو عرسٌ أو مأتم من إطلاق النار ابتهاجاً أو حزناً أو غضباً.
كانت فكرة اللعبة تقوم على مبدأ بسيط: فرقتان من الصبية، كل فرقةٍ لديها "قاعدة خاصة"، وعلى الفريق الآخر بكل بساطة احتلالها. كانت كل الفرق تحظى بأسماء استعراضية، ولكن كعادة الفلسطينيين كانت الأسماء تؤخذ من برامج الأطفال إنما بعد "دمجها" وإدغامها فلسطينياً فتكون فرقة مثلاً باسم "غيفارا المدمر"، أو "القسام الهدام"، أو "الختيار المتوحش". كان مزج تلك الأسماء مع بعضها يعطي قوىً خارقة "اعتبارية" (خيالية) لأصحابها، فيرسم أعضاء فرقة "الختيار المتوحش" مثلاً بالوحل على وجوههم كي يخيفوا الآخرين منهم، أو يحمل أعضاء فرقة القسام الهدام عصياً عريضةً أو يربط الغيفاريون عصباتٍ فوق رؤوسهم. كانت الألعاب تأخذ طابع الحروب الحقيقية، في البداية كنا نقسّم أنفسنا لمجموعات، ونسلّم أحدنا مثلاً "المالية" (والتي تكون عادةً عبارة عن أوراق لعبة المونوبلي الشهيرة). كنا نتفق على شراء أشياء "لدعم المجهود الحربي" أو "لدعم الثورة" بحسب الجهة التي يختارها الفريق المحارب.
كل ذلك كان ليبدو عادياً حتى تبدأ اللعبة. ساعتها يصبح كل شيءٍ مباحاً، تصبح الألعاب فعلاً "متوحشة"، أي شيءٍ تمسكه بيدك يصبح سلاحاً عليك أن تضرب به خصومك. من البصل المتناثر فوق سطوح المنازل، إلى حجارة الطرقات، إلى "هرة" تتسكع في المكان. اي شيء وكل شيءٍ يمكن حمله ورميه كان يستعمل، وبالتأكيد كانت حاويات الزبالة جزءاً من المعركة. لهذا كان المخيّم يتحوّل الى ساحة حربٍ واسعةٍ، وذلك حتى حصول فريق من بين المتحاربين على السيطرة على قلعة الفريق الآخر، والتي عادةً ما تكون إما منزلاً مهدماً مهجوراً، أو مكتباً لتنظيم فلسطيني أغلق ورحل "سكانه".
لا يتخيّل أحدٌ كم كانت تلك الألعاب مدهشةً إلى حدٍ كبير، مثلاً سينزلق أحد أفراد الفريق الأوّل من شباك حمام "قلعة" خصومه، فيما رفاقه يهاجمون من الأمام بحبات البصل. ولا يعرف تأثير حبة البصل المنطلقة بقوة وسرعة إلا من ذاق ارتطامها برأسه. كان أحمد أحد الفتية الأمهر في الرمي في المخيّم، لذلك كان الجميع يتقاتلون كي يكون أحمد، الذي كان يحمل لقب الفوكس، معهم في فريقهم. لكن أحمد كان يعاني من عرجٍ خفيف، وهو أمرٌ لم يكن أحدٌ ليأبه له، ذلك أن أحمد كان يثبت في مكانه ويكون معه صبي آخر كي يؤمن له الذخيرة، اي ما كان يرمي به. المضحك في الأمر أنه حينما تشاهد أفلاماً عن القناصين اليوم، تجد أن هذا هو حرفياً ما كان يحدث مع "الفوكس". كانت ألعابنا باختصار مزيجاً من ألعاب الكبار إنما بشكلٍ طفولي، وبأسلحةٍ طفولية؛ لربما هي كانت تدريباً حقيقياً على ما سيحدث لنا جميعاً في ما بعد.
في آخر النهار، قد لا تكون اللعبة قد "ختمت" بعد، لكن آباء بعضنا، أو أمهاتهم كانوا يبدأون بمناداتنا، لذا، كنا نترك اللعبة غصباً عنا، حتى إن بعضنا كان يظل على كراهيته للفريق الخصم إذا ما رآه في المدرسة في اليوم التالي من دون ان تحسم المعركة، وقد يتحوّل الأمر إلى "ضربٍ" عنيف لأحد أطراف الفريق الخصم إذا ما "استفرد" به خصومه.
كنت أعود إلى المنزل معفراً بالتراب، بثيابٍ متسخةٍ باستمرار، وأحياناً حتى بعين محمرة أو ببعض دماءٍ تسيل من انفي، فتهرع والدتي تتأكد من أن رأسي ليس "مفشوخاً"، فقليلٌ من مسحوق البن اي "القهوة" ينفع مع هذه الحالة ذلك ان الجرح كان يضمد بهذه الطريقة. وما إن تجد أنني مجرد "متسخ" تنهرني بقولها: "يلا روح تحمم، كأنه كنت عم تلعب مع بقر مش مع بني آدمين؟ العمى بشو معجونين؟ بمية القرود؟".
ساعتها كنت أتجه مطرقاً إلى الحمام، أحلم بخطط جديدة للانقضاض على خصومٍ جدد في يومٍ جديد.