القاهرة | بعيداً عن التصريحات الرسمية المتكررة من وزارة الداخلية والجيش حول فردية الصدامات المتكررة بين أفرادهما ومنتسبيهما، وتحميلها على ضغوط العمل على قوات الطرفين، فإن تكرار حوادث الصدام بينهما يشي بوجود خلافات مكتومة بينهما وراءها فرض الهيمنة على الساحة الداخلية.فمنذ عودة الجيش إلى صدارة المشهد عقب 28 كانون الثاني 2011، وترسيخ وجوده بعد 30 حزيران 2013، تم رصد حالات متكررة للصدام المتصاعد بين الطرفين، وآخرها ما جرى في المنوفية حينما حدث خلاف بين أمين شرطة (درجة وظيفية في الداخلية تخلف الضابط وتسبق العسكري وتحمل على عاتقها العبء الأكبر من العمل)، وضابط «طيار حربي» (أصحاب هذه الرتبة يتمتعون بمكانة خاصة في المجتمع أو حتى داخل القوات المسلحة سببها انتساب الرئيس الأسبق حسني مبارك إلى الطيارين).

وقد رفض الطيار طلب أمين الشرطة إعطاءه رخصة القيادة ليندلع عراك بينهما، ما دفع الطيار إلى الاستعانة بالشرطة العسكرية التي طوّقت مبنى قسم الشرطة لمحاولة القبض على أمين الشرطة، الذي تضامن زملاؤه معه وأغلقوا القسم ورفضوا تسليمه، بل سحبوا الخدمات المكلفين بها في الشوارع، قبل أن تتدخل القيادات المعنية، ومنهم قائد المنطقة المركزية العسكرية، لإنهاء الخلاف.
كذلك، سبق ما جرى في المنوفية صدام آخر جرى بين الطرفين في إمبابة في الجيزة، إذ تطور بسرعة إلى درجة تبادل إطلاق الغاز المسيل للدموع بين الطرفين، والصراخ بهتافات «الداخلية بلطجية» مقابل «يسقط يسقط حكم العسكر»، كما تبعها عراك آخر بين ضابط بحرية في الإسكندرية وأمين شرطة في أحد الأمكنة، احتجز إثره ضابط البحرية في قسم «المنتزه» قبل أن تذهب قوتان من البحرية والشرطة العسكرية لمحاصرة القسم وتحرير الضابط المحتجز.
محاولة تفسير أسباب التوتر بخلاف الصراع على مساحات الهيمنة والنفوذ الداخلي، ترجع كما يبدو إلى أن كلا الفريقين ينظر إلى الآخر على أنه صاحب فضل عليه، وخاصة في ما بعد «30 يونيو»، في الوقت الذي ينظر فيه بعضهم إلى أن الجيش سيقدم الشرطة كبش فداء ويحاول تحميلها مسؤولية كل ما جرى من انتهاكات عندما تستقر الأوضاع في البلاد. ويمكن الربط بسهولة بين تصاعد الصدامات بين الطرفين وبدئها غالباً من جانب الشرطة، والتأثير في الساحة الداخلية بعد تراجع هيبة الجيش جراء الضربات المتكررة التي تلقّاها في سيناء على يد «ولاية سيناء» التي بايعت تنظيم «داعش»، وهو أمر ربما أغرى منتسبي «الداخلية» للتمدد بالقوة.
ولتنازع القوة والسلطات بين هذين الطرفين رغبة في أن يكون كل منهما فوق الحساب، وكذلك تؤثر فيه طبيعة العلاقة «النفسية» بين الشرطة والجيش، وهي مسألة خاصة بصراع السلطات خارج الرقابة الشعبية أو البرلمانية، مع أن الأصل كون الاثنين يخضعان لرقابة وإشراف البرلمان الذي يمثل الشعب. وفي ظل خروجهما من الرقابة وتمتعهما بسلطة مطلقة يفهم إطار التنازع بينهما.
والآن، فإن مستقبل العلاقة بين «الداخلية» والجيش وحدود علاقتهما في النظام السياسي الجديد الجاري تشكيله (بعد التحالف بين الطرفين في 30 يونيو وتوحدهما لمواجهة الإخوان المسلمين)، يبقى مرتبطاً بـ«حركة الناس في الشارع». وبعبارة أخرى، فإن غياب التحركات المناهضة للنظام وغياب ما يقلقه يبقيان المجال متاحاً لتزايد الصراعات واستمرارها.
وقد تكون الصدامات المتكررة عنواناً لما يجري من محاولات لإعادة صياغة العلاقة بين مؤسسات الدولة، إذ إنه منذ عام 1952 حتى 2011 والنظام السياسي المصري كان يخضع لسيطرة مؤسسة الرئاسة على بقية مؤسسات الدولة، لأن الرئيس كان يأتي من خلفية عسكرية، أما بعد إطاحة حسني مبارك وعهد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والرئيس المعزول محمد مرسي، أخذت مؤسسات الدولة فرصة من الاستقلالية، وهو ما أدى إلى الخلافات التي حدثت أثناء صياغة الدستور في 2012 و2013، على اعتبار أن تلك المؤسسات لا ترغب في الخضوع لسلطة مركزية أقوى منها. أما التنبّؤ بمستقبل الصدام بين الطرفين فصار صعباً، لأن الواقع أنه من مرحلة ما بعد سقوط مبارك في السلطات الثلاث التي تعاقبت على حكم مصر، اكتسبت المؤسسات الأمنية والعسكرية استقلالية لم تكن تحلم بها. ومن الجيد الإشارة إلى أن أكبر المواجهات بين قوتي مصر العظميين كانت عام 1986 وعرفت بانتفاضة الأمن المركزي، إذ تظاهر أكثر من 20 ألف جندي من الأمن المركزي في معسكر الجيزة احتجاجاً على سوء أوضاعهم وتسرب شائعات عن وجود قرار سري بمدّ سنوات الخدمة من ثلاث إلى خمس، فخرج الجنود إلى الشوارع وأحرقوا بعض المحال التجارية والفنادق في شارع الهرم وقسم شرطة الأهرام، ما تسبب في خسائر قدّرت بعشرات الملايين من الجنيهات.
ولم يحلّ الأمر آنذاك، بعد استمرار حالة الانفلات لأسبوع في القاهرة، إلا إعلان حظر التجوال وانتشار الجيش في شوارع القاهرة ثم اعتقال عدد كبير من قوات الأمن المركزي، بل شنّت طائرات الهليكوبتر ضربات على معسكراتهم بالصواريخ وحلقت فوق رؤوسهم منتظرة الأمر بقصفهم إذا حاول الجنود التوجه إلى مصر الجديدة حيث القصر الجمهوري.