لم يمض أكثر من شهرين على انتهاء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، حتى «ضجت» أصوات داخل حركة «حماس» تتحدث عن مراجعة داخلية كبيرة أفضت إلى قرار مؤسساتي بضرورة تعزيز العلاقة بإيران، على أنها مطلب استراتيجي أثبته ظروف الحرب؛ فلا مصر وقفت مع مطالب الفلسطينيين، ولا تمسّك الحركة بقطر وتركيا بديلا أفضى إلى نتائج، والشاهد على ذلك أن حجرا على حجر لم يتحرك حتى هذا اليوم في القطاع.
تطبيقا لذلك القرار جرى تحشيد الموقف السياسي، بل الإعلامي والدعوي، لإقناع الجمهور العريض للحركة، فلسطينيا وعربيا، بأن «حماس» ستعود إلى حضن إيران من دون أن تتنازل عن موقفها المعادي لدمشق... لم يمض شهران آخران حتى توفي الملك السعودي عبد الله ونصّب خلفا له سلمان، لتبدأ البوصلة الحمساوية المستقرة في الدوحة، بالاتجاه نحو الرياض تاركة وراءها سجلا كبيرا من التصريحات والتحليلات وقد عُلقت على حدود مسألة زيارة رئيس مكتبها السياسي، خالد مشعل، إلى طهران، وأسباب تأخرها، أو إلغائها!
مثل كل مرة، كان لا بد من «قربان» تقدمه «حماس» إلى الرياض بعدما لم يشفع لها موقفها من سوريا بسبب ارتباطها بجماعة «الإخوان المسلمين»، ليأتي العدوان السعودي على اليمن كمحك اختبار، وقفت فيه الحركة منذ اليوم الثاني للحرب موقفا أثار علامات استفهام حول نصه، وخاصة أنها دعمت ما سمتها «الشرعية السياسية» في اليمن، فيما القائمون بالعدوان يتحدثون عن «الشرعية الدستورية» للرئيس اليمني الفار عبد ربه منصور هادي.
طهران لا تزال
تتعامل مع «حماس» حتى اليوم على قاعدة الاحتواء

قد يروج على أن ذلك جزء من السياسة التي يجب ممارستها من أجل الحفاظ على المصالح، مع أن الأسئلة عن الناقة والجمل الفلسطيني في اليمن، بل دعم حرب كانت فلسطين أولى بها، قد لا تجد إجاباتها لدى «حماس»، وخاصة أنه إذا حكي عن التمدد الإيراني في المنطقة، فمن باب أولى الإشارة إلى العلاقة الحمساوية ــ الإيرانية، الأقدم حتى من علاقة طهران بجماعة «أنصار الله». قبل أيام، نفت «حماس» وجود أي خلافات داخلها حول موقفها من العدوان السعودي ضد اليمن، وقال المتحدث الرسمي باسم الحركة، سامي أبو زهري، إن «المزاعم بوجود انقسام داخل الحركة حول الموقف من عملية عاصفة الحزم لا أساس له من الصحة»، واصفا ما نشرته بعض الصحف المصرية بهذا الخصوص بأنه «مجرد أكاذيب».
وبغض النظر عن الانفعال الحمساوي الدائم من «إثارة الأكاذيب» حول ما يدور في الحركة، فإن أبو زهري لم يفته تأكيد وجود «وجهات نظر» مختلفة، لكنها «تنتهي بعد اتخاذ القرار»، في إشارة إلى ما نقل عن حديث لمعارضة بعض القيادات الحمساوية (كمحمود الزهار والمسؤول في كتائب القسام مروان عيسى) للبيان الرسمي الذي اتخذته الحركة بتأييد «الشرعية» في اليمن، على أن ذلك سيؤثر في العلاقات بإيران.
والحديث بهذه الصراحة عن «وجهات نظر» لا يخفي أن الحركة الإسلامية الفلسطينية لا تحمل مناعة ضد ما عاشته حركات التحرر الفلسطينية على مدار سنوات نضالها، وإن كان وجود خصم لدود لـ«حماس»، وهو «فتح»، يحجّم على غالبية قادتها التحدث علنا عما في خاطرهم، فإن ما يكشفه مسؤولون إيرانيون يتخطى ذلك، إذ يتحدثون عن أنه لأول مرة يسعى قادة في الحركة إلى التواصل مع طهران من خلف المكتب السياسي.
لا يوارب المسؤولون الإيرانيون، الذين تحدثوا مطولا إلى «الأخبار»، في التلميح إلى أن الجمهورية الإسلامية تتعامل بحذر مع هذا التواصل، فلا هي معنية بإحداث أي شرخ داخل «حماس»، ولا يغيب عن بالها أيضا أن جزءا من قادة الحركة قد يؤدون دورا مرسوما لهم عبر هذا التواصل، بل بعلم من القيادة الأعلى.
وذكر هؤلاء المسؤولون بعض الأسماء التي حاول المكتب السياسي لـ«حماس» تهميش دورهم لمدة من الزمن، حتى جاءت الحرب الأخيرة فعززت وجودهم، في وقت «لا يستطيع فيه خالد مشعل الحظر على أولئك القادة لمنع إحداث شرخ» شبيه بما جرى مع إخوان الأردن، على أن ذلك مستبعد نظريا. فوق ذلك، يذكرون أن كثيرين من قادة «حماس»، الذين كانوا يزورون طهران في بداية الأزمة السورية، سعوا إلى «تضعيف» سمعة وقدرة القادة الآخرين... «لكننا لم نتعاط مع ذلك، ولم نبنِ عليه موقفا باعتباره شأنا داخليا في حماس».
خلال الأحاديث المنفصلة، اتضح أن طهران لا تزال تتعامل مع «حماس» حتى اليوم على قاعدة الاحتواء بدلا من تحول الأخيرة إلى خصم بفضل عوامل داخلية عديدة فيها، وخاصة مع تنامي التيار السلفي ــ الجهادي داخلها، لكن المتغير الوحيد هو أن السعي الإيراني السابق نحو «حماس» و«اللهفة» إلى التواصل معها اختلفا عن ذي قبل، مقابل قرار بدعم فصائل أخرى، كبيرة أو صغيرة، لتنشئ جبهة مقاومة تكون ذات تأثير عسكري في أي مواجهة مقبلة، كما تمثّل ضمانة لممانعة أي اتفاق سياسي يمكن أن تصل إليه «فتح» أو «حماس»، أو الاثنتان معا، يلغي المقاومة المسلحة أو يعطلها إلى أمد طويل. ووفق المعلومات، فإن «حماس» ليست غائبة عن آثار هذا القرار، بل هو أحد الأسباب التي دفعتها إلى تقوية العلاقة بإيران مجددا، برغم أنها لم تغير مواقفها من حلفاء إيران في المنطقة، كما بقي ثقلها السياسي في قطر. ويفيد قادة فلسطينيون من بعض تلك الفصائل، التي ازداد دعمها والتركيز عليها أخيرا، أن «حماس» أقرت بما استجد ميدانيا كما أشركتهم في غرفة التنسيق، ولكن المسؤولين الإيرانيين أكدوا في الوقت نفسه أن بلادهم، التي تدعم المقاومة الفلسطينية منذ عشرات السنوات حريصة على منع خرق التوازنات في الساحة الفلسطينية، سياسيا أو عسكريا، تخوفا من احتمالية نشوب اقتتال داخلي.
أحد القادة الفلسطينيين، يرى أن لديهم كامل الحق في العمل تحت أي إطار أو مسمى، مقدرا أن تزايد عدد الفصائل الصغيرة يمنع أي قوة من مواجهتها بالاعتقالات، كما كان يجري في عهد السلطة، ولكنه لا يخفي تضايقهم من حصر الامتيازات لكتائب القسام (ذراع حماس العسكرية)، وخاصة في أماكن حفر الأنفاق ومراكز التدريب. كذلك ينبه إلى أن العلاقة بـ«حماس» حاليا في أفضل أحوالها الآن برغم علمهم بتضايق الحركة من تواصلهم مع إيران، كما يستبعد أن تضغط عليهم «حماس» «وهي نفسها التي تنتقد سياسة التنسيق الأمني للسلطة في رام الله».
أيضا، كان تطور علاقة مصر بالفصائل الأخرى من غير «حماس» منذ بداية عهد عبد الفتاح السيسي، مجالا لوصول قادة بعض الفصائل إلى إيران، وتكوين علاقات مباشرة بالحرس الثوري الإيراني، وهو ما لا تستطيع «حماس» التي كانت «شمسها» تغطي على جهود البقية، أن تداريه اليوم.
وحتى التهويل السني ــ الشيعي فقد تأثيره في غزة مقارنة بالأحداث الجارية أصلاً في الدول المجاورة، وتحديداً أن ما كان ينشر عن التشيع في غزة لا يرقى لكونه حالة تشعل معركة داخلية مثلما يحدث في دول أخرى.
والجديد في الأسبوع الجاري أن «حماس» عادت لتشديد قبضتها على الحالة السلفية في غزة الخاضعة أصلا لرقابتها، فهي خلال أيام اعتقلت على حواجزها عددا من العناصر السلفيين المتشددين، كما دهمت بيت أحد القادة ويدعى عدنان ميط.
يرجح بعض المتابعين أن لهذه الحملة علاقة بالتوتر الناجم عن المعركة في مخيم اليرموك، في دمشق، وخاصة أن حلفاء الأمس لجماعة «أكناف بيت المقدس» التي ألّفها مسؤولون عسكريون في «حماس» صاروا أعداء اليوم، ولاسيما من «جبهة النصرة وداعش»، لكن حملة الاعتقالات في دلالاتها تحمل مؤشرا على أن «حماس» برغم مواقفها مما يسمى الصراع الشيعي ــ السني في المنطقة، تضطر بحسابات معينة إلى «تقليم أظفار» السلفيين، على أنه لا يلغي التحريض الداخلي فيها ضد إيران وحزب الله.
بالعموم، فإن الإيرانيين يظهرون اطلاعهم بالتفصيل على الحالة الفلسطينية، أكثر بكثير مما يمكن توقعه، ولعل ذلك يعود إلى تعدد الجهات الفلسطينية التي صار يسمع إليها بدلا من الرواية الواحدة.
وبشأن «حماس» والعلاقة معها مستقبلا، فإن المسؤولين الذين تحدثنا إليهم لا يخفون وجود غضب كبير من أسلوب الحركة في قول شيء أمامهم ثم التحدث عبر الإعلام بتصريحات معاكسة، ولكن هذا لا يلغي أساس العلاقة الذي تدعم به طهران «حماس»، كما يشيرون إلى أنهم صاروا يلمسون ثلاثة أنماط من التعامل مع قادة الحركة: النمط الأول الذي لا يسعى إلا إلى الرئاسة، سواء رئاسة الحركة أو حتى رئاسة السلطة، لذلك في مراحل معينة «نجده الأقرب إلينا وفي ليلة وضحاها يعادوننا... تبين أن كل ما يعنيهم هو الحفاظ على مواقعهم».
النمط الثاني هو النمط السلفي داخل «حماس» ويعادي إيران وحزب الله منذ القدم، وقد لمس الإيرانيون ذلك قديما منذ بداية التسعينيات حيث مرج الزهور التي أبعد إليها نحو 400 فلسطيني من عدة تنظيمات. وفي النمط الثالث والأخير، هناك تياران: الأول يميل ميلا كاملا إلى إيران؛ وتيار ثان يرى في التحالف مع إيران ضرورة واجبة في «المنطقة العربية المتخاذلة»، ولكن من دون التوافق مع كل السياسات الإيرانية في المنطقة، مع أن هذا لا يبرر من وجهة نظر المسؤولين اصطفافات الحركة في الإقليم، «لأن حماس على وجه الخصوص تعلم ما تعمل عليه إيران وما خسرته من أجل دعم المقاومة في المنطقة... فعلى إخوتنا أن يرحمونا ويرحموا أنفسهم».



سليماني ومشعل

بسؤال بعض المسؤولين الإيرانيين عما حكي عن لقاء جمع قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، الجنرال قاسم سليماني، ورئيس مكتب «حماس» السياسي، خالد مشعل، فإنهم أقروا بحدوث هذا اللقاء بعد الأزمة السورية. في البداية وجهت إلى مشعل الدعوة للحضور إلى بغداد، ولكن الأخير طلب أن يكون اللقاء في مكان آخر (بيروت)، وهو ما جرى فعلا.
وشدد المسؤولون أنفسهم على نفي أن يكون اللقاء قد عقد في تركيا، كما تحدثت بعض وسائل الإعلام، «لأننا برغم العلاقات بأنقرة لا يمكن أن نستأمن فيها على أي عنصر من عناصر الحرس، وهذه أيضا إحدى نقاط ملاحظاتنا على حماس في قضية وجود قادة لها هنا».
تهمس المصادر بأن اللقاء كان حادا وحمل توبيخا كبيرا من سليماني لمشعل بشأن المشاركة الحمساوية العسكرية في سوريا (ظهرت آثارها أخيرا في الصراع بين تنظيم أكناف بيت المقدس وداعش والنصرة)، إلى حد اضطر فيه سليماني إلى إنهاء اللقاء من دون نتائج، ولكنه نبه مشعل إلى أن اشتراك «حماس» في الحرب داخل سوريا لن يساعد على حل الأزمة مع دمشق.
وبشأن زيارة مشعل إلى طهران، بعدما شغلت الإعلام بصورة رتيبة، فإن المصادر أيضا تؤكد أنه برغم كل ما جرى ظل هناك إصرار من الحرس على قدوم مشعل إلى طهران، برغم رفض مرشد الجمهورية، السيد علي الخامنئي، القاطع للقائه، وإن هناك من اجتهد بأن يستضاف مشعل في مسجد يؤم فيه المرشد الصلاة، ثم يجري لقاء سريع بين الاثنين دون اجتماع تفصيلي، وبذلك يجتاز مشعل العقبة الإعلامية ولا يكون المرشد قد جلس معه بمعنى الاجتماع... على أن كل ذلك علق بعد ما جرى في اليمن.