تكريت ـ الأخبار | هنا تكريت. حيث لا تسمع إلا أصوات الرصاص والانفجارات تدوي في الأزقة وبين الأبنية، ولا ترى سوى الآليات العسكرية وأرتال الجند تتجول بخفر من شارع إلى آخر تطارد فلول المسلحين الذين انحصر وجودهم في المدينة بمربع سكني محاصر في حي القادسية الشمالي.هنا تكريت، العاصمة الفعلية للعراق إبان فترة الحكم البعثي، كما يرى كثير من العراقيين، فيما لا يشعر آخرون بأن في الأمر تهمة تستدعي الرد. هنا تكريت، «حاضرة الدواعش» في «ولاية صلاح الدين» وملاذهم شبه الأخير فيها بعد هزيمتهم من معظم أرجائها، خلا مدينتي بيجي والشرقاط اللتين يبدو أن سلسلة انتصارات القوات العراقية النظامية والشعبية ستصل إليهما عاجلاً.

وفي اليوم السادس من العمليات العسكرية عادت تكريت إلى كنف الدولة العراقية. عودة كانت ستستغرق على الأرجح وقتاً أطول وأكلافاً باهظة أكثر لولا الزخم الميداني الذي أعطته قوات «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة بدخول قواتها المعركة صباح أمس بعد أن اتخذت قياداتها قراراً بالعودة إلى المشاركة في عملية تحرير المدينة. قرار استند إلى تعهّد قدمه رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بوقف «التحالف الدولي» لغاراته على المدينة وابتعاده عن منطقة العمليات، ملبّياً بذلك شرط «الحشد» والفصائل للمشاركة في عملية التحرير.
وعلمت «الأخبار» أن العبادي أعطى هذا التعهد في اجتماع عقده أول من أمس مع قيادات قوى المقاومة العراقية، حيث علل قراره الأول بالسماح لطائرات التحالف بقصف تكريت وأكد عودته عن هذا القرار، طالباً من هذه القوى الدخول المباشر والسريع في المعركة إلى جانب قوات الجيش والشرطة الاتحادية لدعمها في سرعة إنجاز الحسم.
عودة «الحشد» جاءت
بعد تعهّد قدمه العبادي بوقف «التحالف» لغاراته

ورغم إيعاز قيادة «الحشد» وفصائل المقاومة العراقية بأنها ستستعيد جاهزيتها العسكرية صباح غد الخميس، فإن التطورات الميدانية استدعت بعضها إلى الدخول الطارئ، بما توفر من جاهزية، في قلب المعركة منذ مساء الاثنين لتقديم المساعدة إلى القوات النظامية التي كانت قد تقدمت إلى التخوم العمرانية للمدينة وحققت بعض الاختراقات الجزئية.
إلا أن المواجهات الشرسة التي اصطدمت بها هذه القوات جعلتها تعتقد، كما همس بعض قياداتها، بأن «التحالف الدولي» قد خدعها حين أكد لها أنه استهدف كافة المراكز والمقار القيادية لـ«داعش» داخل المدينة، بما أدى إلى انهيار وضع التنظيم. وقد استغرق الأمر خمسة أيام، تضمنت جهوداً نارية برية وجوية كثيفة، لتتمكن القوات النظامية العراقية من التقدم باتجاه مستشفى تكريت الواقع على التخوم الجنوبية للمدينة، ولتقترب من الحافة العمرانية من الجهة الغربية.
وهكذا شهد يوم أمس زخماً استثنائياً مع توزيع محاور التقدم باتجاه المدينة وتقسيمها إلى أربعة محاور: جنوبي من العوجة الجديدة باتجاه مستشفى تكريت ومبنى المحافظة، وجنوبي غربي من منطقة الهياكل باتجاه حي الطين وصولاً إلى مبنى المحافظة أيضاً، وغربي من منطقة الديوم باتجاه أحياء الزهور والصناعي والأربعين وصولاً إلى شارع صدام الذي يفلق المدينة إلى جانبين، واستمراراً نحو مجمع القصور الرئاسية شرقي تكريت. والمحور الرابع هو المحور الذي انطلق من جامعة تكريت شمالي المدينة نزولاً نحو حي القادسية الذي كانت فلول المسلحين لا تزال تتحصّن في بعض مبانيه حتى مساء أمس، وينتظر أن يُحسم أمرهم كما تؤكد القيادات الميدانية هذا النهار على أبعد تقدير.
وسرعان ما تقدمت القوات في المحاور الثلاثة الأولى بما أدى إلى تهاوي الوجود «الداعشي» في تكريت خلال ساعات قليلة، فيما تأخر التقدم في المحور الرابع نظراً إلى تركيز الجهد في المحاور الجنوبية الغربية. وأكدت مصادر ميدانية لـ«الأخبار» أن «الليلة (أمس) ستشهد تثبيتاً للقوات في نقاط أساسية ومفصلية داخل المدينة بانتظار حسم المعركة اليوم، على أن يصار في وقت لاحق إلى تعزيز حضور وحدات الهندسة كي تباشر عملية تطهيرها من العبوات والتفخيخات». وتقدّر هذه المصادر أن يستغل بعض عناصر «داعش» الذين لا يزالون متخفين داخل المدينة ساتر الليل لمحاولة الفرار خارجها، علماً بأن بعض التقديرات تشير إلى احتمال أن يلجأ بعض المتحصّنين إلى تنفيذ عمليات انتحارية نتيجة يأسهم من إمكانية الفرار جراء إطباق الحصار عليهم.
وشهدت ساعات نهار أمس جولات عديدة قامت بها قيادات من الجيش والشرطة الاتحادية و«الحشد الشعبي» داخل أحياء تكريت، كذلك زار محافظ صلاح الدين، رائد الجبوري، المدينة وشارك مقاتلي «الحشد» في «هوسة» شعبية وسط شارع صدام.
وكشفت جولة ميدانية سريعة لـ«الأخبار» داخل تكريت عن اتخاذ «داعش» عدداً من الأبنية الحكومية مقار له. كذلك ظهر أن مجمع القصور الرئاسية كان يستخدم أيضاً مكاناً لتموضعهم، حيث عثر في أحد القصور على مطبخ مركزي، وفي آخر على ما يبدو أنه مصنع لإعداد المواد المتفجرة. ويقع المجمع على شاطئ دجلة ضمن منطقة مسورة تبلغ مساحتها نحو خمس مساحة تكريت ويضم أكثر من عشرين قصراً وعشرات الأبنية الفخمة الملحقة (معظمها متضرر من القصف)، وهو كان عبارة عن «جنة مصغرة» لعائلة صدام حسين تتوزع فيها المراتع الخضراء والبحيرات الاصطناعية المرتفعة التي يجر إليها الماء من نهر دجلة المنخفض.
وكان العبادي قد أعلن أمس تحرير تكريت مركز محافظة صلاح الدين، قائلاً، وهو القائد العام للقوات المسلحة، خلال كلمته في «مؤتمر السفراء العراقيين الرابع»: «أزفّ لكم بشرى وصول قواتنا البطلة الى وسط مدينة تكريت ورفع العلم العراقي فوق مبنى المحافظة». وأضاف في سياق كلمته إنّ «هناك حملة كبيرة ضدنا، والبعض يريد استقطابنا لمحور معين، ولكن العراقيين لا يستقطبون، وانما هم من يقومون باستقطاب الآخرين من أجل مصلحة أبنائنا».