القاهرة | الرجل الذي كان يلوّح حازماً بقبضة يده اليمنى ــ الخاتم المميّز في يده اليسرى يظهر بين حين وآخر ــ إلى جوار حَمَلة المباخر خلال حملته الرئاسية العام الماضي، أقنع قطاعاً واسعاً من الجماهير المُرهقة من حكم «الإخوان»، بأن عهداً جديداً بدأ، وبأن الاستقرار والتنمية والأمن في الطريق إليكم «يا مصريين»، قبل أن تنتهوا من أكل «الفيشار» أمام شاشات التلفزيون.بعد قرابة تسعة أشهر من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، ظهرت الصورة كاملة للناخب المصري. تراجعت شعبية قائد الجيش، وتبخر حلم الاستقرار، ولم يستقر الأمن، وتوغل الاكتئاب الشعبي، وأُهدرت الحريات، وامتلأت السجون بالمعارضين، من كل لون، ونوع، وفئة عمرية. لم "يُطبطب" على الفقراء، ولم يأت لهم بـ"حتة من السماء"، كما وعد. أرهقهم، بسلسلة من ارتفاعات جنونية في الأسعار، وتحرير أسعار الطاقة، وارتفاع في معدلات البطالة، والتضخم.

السلطة الحالية مصدر إحباط للكثيرين. تكسر كل القواعد، وتتسرّع وتنفرد باتخاذ قرارات مصيرية بالنسبة إلى المواطن المصري على جبهات عدّة، غير عابئة بالداخل. هناك أكثر من ملف، من بينها ملف مشاركة مصر في «عاصفة الحزم» في اليمن. هنا لا يُسقط المصريون من ذاكرتهم الجمعية مستنقع اليمن عندما أرسل عبد الناصر آلاف الجنود لدعم إعلان جمهورية عربية يمنية، بدلاً من الملكية، المدعومة من السعودية وبريطانيا. والسؤال الآن: ماذا لو اضطر الجيش المصري إلى إدخال قوات برية في النزاع اليمني الداخلي، بناء على طلب من السعودية؟ السؤال صعب، والإجابة مرفوضة شعبياً.
الرئيس عبد الفتاح السيسي يقدم نموذجاً جديداً من الانفراد بالقرار السياسي، فيه من رائحة مبارك، وشطحات السادات، ولا شيء من جمال عبد الناصر. في ملف سدّ النهضة، الذي يؤرق بال 90 مليون مصري، على خُطى السادات خطب السيسي في البرلمان الإثيوبي (قبل أشهر كان خيار الحرب مفتوحاً لوقف هذا السد)، وأراح الإثيوبيين الذين شعروا بنشوة الانتصار، بعد توقيع السيسي وثيقة مبادئ سد النهضة، الشبيهة باتفاقية عنتيبي، التي رفضتها مصر مراراً وتكراراً. الخطوة أقلقت خبراء وسياسيين، وعدّها مراقبون تنازلا عن حقوق تاريخية لمصر في مياه النيل، المصدر الأول للحياة منذ آلاف السنين.
ضربة عاطفية مؤثرة وجهها السيسي لجمهوره من شرم الشيخ. النظام المصري الذي كان يرعى، في الباطن، حملة شرسة ضد قطر بدعوى دعمها للإرهاب في سيناء، لاقى رئيسه انتقادات لاذعة، وعلى نطاق واسع، عقب القبلات الساخنة التي وصلت خدّ الأمير تميم في القمة العربية الأخيرة. قطر التي كانت عدواً شعبياً، لأشهر، تحولت بين ليلة وضحاها، إلى شقيقة كبرى، وخصوصاً أن مصادر موثوقة تؤكد عودة سفراء البلدين، بعد سحبهما، أخيراً، إثر بيان رسمي لمندوب مصر في الجامعة العربية، اتهم فيه قطر بتمويل أعمال الإرهاب في سيناء.
السيسي، الذي سبقت ترشحه للرئاسة، مقولات، أبرزها استقلال القرار الوطني، وإنهاء التبعية للخارج، والاستغناء عن المعونة الأميركية، لم يجد أي غضاضة، في أن يقول في حوار مع «وول ستريت جورنال» قبل أكثر من أسبوع: «لن ندير ظهرنا لواشنطن، حتى إن أدارت ظهرها لنا».
الرئيس المصري، الذي تراجعت في عهده المظاهر البسيطة للديموقراطية وهو يرفض الحديث مع أي أطراف وطنية في الداخل في ملف الحريات وحقوق الإنسان، يتودد إلى الإدارة الأميركية، ويوضح في حواره مع الصحيفة ذاتها أنّ «القيم الأميركية مثل الديموقراطية والحرية ينبغي تلبيتها وتكريمها، لكنها تحتاج إلى مناخ معين حتى يمكن رعايتها، وإذا استطعنا تحقيق الرخاء فيمكننا الحفاظ على هذه القيم، ليس فقط بمجرد الكلمات».
في كل هذا، لا يعبأ السيسي كثيراً برأي الشارع، الغاضب، لأن الكهنة التاريخيين، الأزهر والكنيسة ومسؤولي الدولة وإعلاميين بالجُملة وخبراء، يخرجون من شاشات التلفزيون وسمّاعات الراديو، وصنابير المياه، يؤدون عنه هذه المهمة السهلة الآن ــ المستحيلة في المقبل من الأيام.