شهدت الانتخابات الإسرائيلية اهتماماً ملحوظاً في الساحتين الفلسطينية والعربية، بلغ بعضها حدّ تناول التفاصيل التقنية والجزئية التي تشهدها الصراعات الداخلية في إسرائيل. لكن هذا الاهتمام بمجمله، منه ما يندرج ضمن متابعة العدو ومعرفته، المطلوبتين في سياق حركة الصراع معه، لكن البعض الآخر يندرج اهتمامه تحت عناوين مختلفة، تتدرج لتصل لدى جزء منهم إلى حدّ أن متابعته لهذه الانتخابات جزء من رهاناته على تقلبات داخلية في الرأي العام الاسرائيلي على أمل أن يصبّ ذلك في مصلحة خيارات تسووية ثبت مرة أخرى أنها عقيمة.
وينبغي القول إن الصنف الأخير، في الوقت الذي يرفض الرهان على المقاومة بكل عناوينها وأساليبها، لا يجد حرجاً في الرهان على هذا الحزب السياسي الإسرائيلي أو ذاك. لكن الحقيقة التي لم يعد بإمكان أي جهة تجاهلها، حتى من دون الاستناد إلى نتائج الانتخابات الأخيرة، أن هناك إجماعاً واسعاً يشمل اليمين واليسار، وما بينهما، على عناوين تؤكد انعدام الأفق أمام إمكان التوصل إلى تسوية شاملة على المسار الفلسطيني، في هذه المرحلة.
حكومة الوحدة توفّر لنتنياهو قاعدة نيابية عريضة تسمح لها بأن تكون أكثر استقراراً

يصح القول إن نتنياهو نجا من سيناريوات كانت تحملها بعض استطلاعات الرأي. استطاع أن يُعزِّز مكانة «الليكود» بمستوى غير مسبوق، ورفع مستوى تمثيله إلى 30 مقعداً، وهو أمر لم يحصل منذ أكثر من عقد (نال في انتخابات عام 2003، 38 مقعداً). مع ذلك، فإن الساحة الإسرائيلية ما زالت تخلو من حزب مهيمن، كما كانت عليه لعقود متوالية منذ إقامتها في عام 1948، وهو واقع كان له سياقاته الاجتماعية والسياسية الداخلية، وآثاره على تركيبة الحكومة وآلية صناعة القرار السياسي.
رغم القفزة التي حققها حزب «الليكود»، بالقياس إلى نتائج الانتخابات السابقة (20 مقعداً) وأيضاً بالقياس إلى ما كانت تتوقعه له استطلاعات الرأي، الملاحظة التي ينبغي أن تبقى حاضرة في مقاربة الساحة الإسرائيلية أن «الليكود» حقق تقدمه على حساب الأحزاب اليمينية الأخرى، وليس من الكتلة الوسطية المفترضة. وبالتالي فإن حقيقة ما جرى هو أن مركز الثقل داخل المعسكر اليميني انتقل إلى «الليكود» بعدما كان موزعاً بين عدة أحزاب يمينية؛ وللمقارنة، كان مجموع مقاعد «الليكود» و«إسرائيل بيتنا» و«البيت اليهودي»، في الانتخابات السابقة، 43 مقعداً، وبات هذا المجموع بعد الانتخابات الأخيرة، 44 مقعداً، لكن بتوزيع مختلف. ويضاف إليهم الأحزاب الحريدية التي تراجعت من 18 مقعداً، إلى 13 مقعداً، أما حزب «كولانو»، الذي يرأسه موشيه يحلون، فهو ينتمي إلى يمين الوسط، واستطاع جذب مئات آلاف الأصوات من الناخبين اليمينيين المحتجين على السياسات الاقتصادية الاجتماعية.
في ما يتعلق بالأسباب والسياقات التي أدت إلى إنتاج هذه الخارطة السياسية الجديدة، من منظور محدد، لا شك في أن الحملة التي قادها نتنياهو بنفسه، واستفزّ من خلالها غرائز جمهور اليمين عبر التخويف من نتائج إقبال العرب الفلسطينيين على صناديق الاقتراع، ومن خلال نزع صفة اليمين الوسط على طروحاته، عبر الاعلان عن حقيقة موقفه من الدولة الفلسطينية متعهّداً بأنه خلال توليه رئاسة الحكومة المقبلة فإن هذا السيناريو لن يتحقق، كان لها دور أساسي في حصول «الليكود» على هذا العدد من المقاعد.
مع ذلك، ينبغي تسليط الضوء على أسباب أكثر جذرية مرتبطة بتركيبة المجتمع اليهودي، وهي أن قطاعات شعبية واسعة بوصلتها الانتخابية موجهة حكماً نحو الأحزاب اليمينية، وهي الجمهور الروسي الذي يصوّت في غالبيته لمصلحة معسكر اليمين، موزعة بين هذا الحزب وذاك. والجمهور الحريدي، الذي يصوت لمصلحة حزبي «شاس» و«يهدوت هتوراة»، الحليف التقليدي لليمين العلماني، وبدونهم لا يستطيع نتنياهو تشكيل حكومة يمينية مستقرة. وأيضاً جمهور المستوطنين المعروفين بمواقفهم اليمينية المتطرفة. هذا إلى جانب حقيقة أخرى، وهي أن الغالب على اليهود الشرقيين هو التصويت لمصلحة معسكر اليمين عامة و«الليكود» خاصة، وهو مسار سلكه اليهود الشرقيون منذ سبعينيات القرن الماضي، فيما يغلب على اليهود الأشكناز التصويت لأحزاب الوسط واليسار.
لا تعني الأغلبية اليمينية، وتكليف نتنياهو رسمياً تشكيل الحكومة المقبلة كنتيجة طبيعية لها، أن عملية التشكيل ستتم بالضرورة بشكل تلقائي ومن دون عراقيل. بل هناك العديد من المحطات والعقبات يتوقع لها أن تساهم في تعقيد المشهد وتعريض نتنياهو لضغوط وابتزازات متقابلة.
بعيداً عن الشعارات والمواقف التي أطلقها المسؤولون الإسرائيليون خلال الحملة الانتخابية، فإن التركيبة السياسية للكنيست تجعل مصلحة نتنياهو المؤكدة تكمن في تشكيل حكومة «وحدة وطنية» تشمل إلى جانب أحزاب معسكر اليمين كلاً من «المعسكر الصهيوني» وحتى حزب «يوجد مستقبل». ومنشأ هذه المصلحة يعود إلى أن مثل هذه الحكومة توفر لنتنياهو قاعدة نيابية عريضة تسمح لها بأن تكون أكثر ثباتاً واستقراراً. أضف إلى أن وجود أطراف متقابلة يمنح نتنياهو هامشاً أوسع في اللعب على التناقضات داخل الحكومة ومواجهة طروحات كل من الطرفين اللذين يقعان كما يفترض على يمينه وعلى يساره.
وبرزت أيضاً حاجة إضافية لحكومة من هذا النوع، منشأها ردّ الفعل الأميركي والأوروبي على مواقفه خلال الحملة الانتخابية من عدم إقامة دولة فلسطينية. في المقابل، قد يكون نتنياهو أحوج إلى رسالة مغايرة تُجمِّل موقفه من التسوية. وبعبارة أخرى، بات أكثر حاجة إلى ورقة توت تغطي عوراته اليمينية المتشددة، وهو ما يمكن أن يتحقق من خلال مشاركة «المعسكر الصهيوني» برئاسة يتسحاق هرتسوغ.
لكن هذه المصلحة الابتدائية لا تعني أن الطريق اليها معبَّدة، خاصة أن نتنياهو تعهّد بعدم تشكيل مثل هذه الحكومة.
أضف إلى ذلك أن الطرف المقابل قد يستغل حاجة نتنياهو كي يعزز شروطه ومن أجل تبرير مثل هذا التحول في القرار لمصلحة المشاركة في الحكومة.
في كل الأحوال، وأياً كان المسار الذي ستسلكه عملية تشكيل الحكومة المقبلة، فإن التلويح بخيار تشكيل حكومة تتمتع بقاعدة برلمانية واسعة يخدم نتنياهو حتى في المفاوضات الائتلافية مع شركائه اليمينيين، من خلال الإيحاء لهم بوجود بديل أمامه يسمح له بتشكيل حكومة وحدة في حال حشروه بمطالبهم ومواقفهم. وبالتالي يمكن لحضور هذا الخيار في خلفية المفاوضين أن يساهم في تعزيز موقع نتنياهو التفاوضي، وإضعاف خصومه وشركائه.