غزة | يبدو والله العليم أنّ لقب "آل غوينغ" هو أنسب الألقاب لمعشر أهالي قطاع غزة. لا سيما مع ردودهم السريعة على دعوات تُوّجه إليهم عبر قنوات التواصل الاجتماعي لحضور مناسبات وفعاليات خارج القطاع، كأن الخروج من القطاع هو بهذه السهولة. والرد السريع سهل: فمجرد الكبس على أيقونة "Going"، يولّد لديهم الشعور بقدرتهم على الامساك بزمام الأمور، او القدرة على اتخاذ قرار التنقل خارج مكان يُحاصر من كل صوب، على غير ما هو واقع الحال بالطبع. فأيقونة "Going" وبضغطة زر صغيرة، لا تستغرق منهم سوى ثانية تولد الشعور المريح بالقدرة (غير الحقيقية) على حل كل مشاكلهم العالقة بسبب حالة معبر رفح، الله ما أعظم شأنك يا مسز Going!
تَمنح "فيزا غوينغ" لروّاد الفايسبوك من الغزيين فرصة السفر إلى أي مكان يشاءون من دون استثناء، من دون أن يُكلفهم ذلك أكثر من بدل خدمة الانترنت! وفوق ذلك كلّه راحة يتمتع بها المقلعون عبر هذه المطارات العنكبوتية، فهي لا تضطرهم للتحرك من مقاعدهم ولو لإنش واحد فقط، هكذا لن يبذلوا أي جهد يمكن أن يرهقهم أو يستنزف وقتهم، كمعاناة السفر عبر معبر رفح، فأيّ رفاهية وأي نعيم يعيش به "آل غوينغ"؟!

الميزة الجميلة هنا، أنّهم باستخدامهم هذه الخدمة، يتساوون افتراضياً مع سكان العالم الحر. فعبر مطارات الغوينغ اصبحوا سواسية كأسنان المشط مع غيرهم، مثلهم كمثل الأجنبي، ولا يحق لأحد الاستعلاء عليهم بسبب الضائقة المعيشية التي يعانون منها بسبب ظروف سياسية وأمنية. ومع انهم يثقون تماماً بأنّهم غير قادرين على الذهاب أو المغادرة، فإن الاقبال على زر "غوينغ" هو على الأغلب محاولة لإشباع رغباتهم المكبوتة، وهذا أقل مايستطيعون فعله، بغرض خلق توازن في دواخلهم، ما يحقق لهم بعض الرضا، لا سيمّا مع تطوّر التقنيات الحديثة في الاتصال، بما يفسح المجال لمشاركة فعّالة أكثر من ذي قبل!
وزيادة عن هذا كلّه، إنّ لقب "آل غوينغ" يبدو أنيقاً ولائقاً على الغزازوة. فهو يشبه أسماء العائلات الأميركية، آل واشنطن، آل كلينتون، آل غور. أقله أن يحظى الغزيون بما يليق بمقامهم بعد كل هذا العناء الذي يتكبدونه ليلاً نهاراً. فهم بحاجة، كغيرهم لبعض "البرستيج" والأناقة، لمواكبة نظرائهم من المجتمعات الأخرى الاوروبية خاصة. وهي مجتمعات ذات بأس ونفوذ نظراً إلى الحظوة التي يحتلها سفراء وممثلو تلك الدول في أرجاء القطاع، ما ينعكس ايجاباً على عملية دفق الأموال.
المكان لم يزل يُحاول النهوض من آثار الحرب الأخيرة عليه الصيف الماضي. صحيح أنّه ليس بوسع الواحد منا أن يُعزّي نفسه بهذا الأسلوب، اي ان يضمر كل القهر الممكن وفي الوقت ذاته يسخر من نفسه لكي تتسلل إلى قلبه طراوة ابتسامة او مزحة تطربه، وتُخفف عنه ما يُصيبه. وهذا هو ما دأب على فعله آل غوينغ في حياتهم.
حتى أنّهم، ولفرط براعتهم في هذه الكوميديا السوداء، فباستطاعتهم أن يحتكروا المراتب الأولى عالمياً في هذا المجال، لو كان هناك من مكافأة للمسافرين عبر الغوينغ.
السخرية جميلة، وهي ترطب القلب وتضحك المرء من واقعه بدل أن يغضب مثلاً. لكنها في الحقيقة لا تحل شيئاً في واقع اهل القطاع المحاصر. ويبقى المشكل الذي يؤرق الغزازوة: "غوينغ؟ اور نات غوينغ" "ذيس اذ ذا كواستشن".