سنةٌ بأكملها بقيت على هذه الحال. لم أخرج من منزلنا إلا للضرورات القصوى، كنت في التاسعة من العمر، أقرأ كتباً لأناسٍ يفتتون الصخر لأجل بلادهم، قرأت كتباً عن مقاومة الأبطال السوفيات في الجيش الأحمر للمحتل النازي، وقرأت عن مقاتلين أشداء قاتلوا حتى آخر لحظةٍ ليستشهدوا إبان ثورة عام 1936 في فلسطين. قرأت عن الشيخ عز الدين القسّام، والشيخ نمر السعدي، قرأتُ كيف رفض القسّام يوماً عرضاً كي يصبح "مفتياً" للديار، ويحوز المال الكثير، وقرر القتال حتى الموت.
كانت تلك الاختيارات هي ما يسحرني ويذهلني. بت معتقداً بأن "القراءة" هي سمتي الأبرز، لكن في داخل نفسي كان هناك سؤالٌ حثيث: متى سأخرج من المنزل؟ كان ذلك المتنمر يسكن قريباً من منزلنا، يلعب كرة القدم هناك، يمارس تقريباً نصف حياته في الخارج، حيث الشمس، والحرية، وبالتأكيد يذهب الى حيث لا أستطيع، الى أهمّ ما في حياتي كطفلٍ في العاشرة: الدكان.
كان مجرد طلب والدتي مني أن أحضر لها شيئاً من الدكان، يعني صراعاً داخلياً مع الخوف. والخوف أقوى من كل الأسلحة في الدنيا. فهو وإن كان شيئاً سيئاً للغاية، إلا أنه يعلّمك أشياء كثيرة: منها إجبارك على مراجعة حساباتك وخططك أكثر من مرة، والتأكّد من أنها ستطبق فعلياً ومن دون أي أخطاء، فالأخطاء ستكلفك صفعةٌ من هنا، أو ركلة من هناك، وعودة بثيابٍ معفّرة إلى المنزل لتشرح لأمّك أنك ضُربت أو "تشاجرت" فيكون رد فعلها البديهي: "وليش ما كسرتلو إيده؟".
كانت أمي التي قاتلت في صفوف المقاومة في عام 1982 ترفض نهائياً فكرة الابن "الواهن" و"الضعيف". كانت مشكلتي مشكلتين. كان اسم الفتى على ما أذكر: سامر. يومها طلبت مني والدتي أن آحضر لها "سطل" لبنٍ صغيراً. كان سامر "يرتع" في الشارع، ولم يكن يدخل إلى منزله إلا ليشرب، ساعتها كانت الفرصة سانحةٌ للغاية كي أعبر بسرعة إلى الدكان وأعود قبل عودته "للرتع".
استوقفتني والدتي قبل الخروج قائلةً: لأ مش زابطة معك. فاستغربت، فهمت أنها تعرف شيئاً. لم تصرخ والدتي نهائياً كما اعتقدت أنها ستفعل، بل حملت كتاباً ذا طباعةٍ رديئة للغاية اسمه "يوم سقينا الفولاذ". كان يتحدث عن مقاتلٍ سوفياتي يقرر بطائرته أن يدمر قطاراً نازياً محملاً بالذخيرة. يفقد البطل رشاشات طائرته حين إقلاعه، فيفهم أنه أمام حلٍ واحدٍ لا غير: عليه اقتحام القطار بطائرته وتفجيرهما معاً، كانت رحلةً بلا عودة. يختار البطل تلك الرحلة ويمنع وصول السلاح لمحتلي بلاده. هكذا هي القصة التي روتها لي والدتي باختصار. أنا كنت أعرف القصة، فقد قرأتها ثلاث مراتٍ قبلاً، لكن لم أفهم ماذا كانت تريد أن تقول لي. "ما فهمت شي؟" سألتني. ثم قالت "إذا ما فهمت، أنا بروح بجيب لبن، وبس تفهم، إبقى اطلع من البيت". يومها جلست حائراً، لم أعرف فعلاً ماذا كانت تقصد أمي بكلامها، وما علاقتي أنا بالنازيين وبالسوفيات والطائرات والقطارات وما إلى هنالك.
عادت أمي من رحلة "اللبن" وسألتني: بعدك مش فاهم؟ هززت برأسي نفياً. فقالت: "المقاومة يما شي بيعمله الضعيف عشان يواجه القوي، المقاومة شي للشجعان بس، فاهم؟ بس اللي قلوبهن نار فيهن يكونوا مقاومين، اللي مستعد يرمي حاله على الموت هو اللي بيقاوم. عشان هيك مش كل الناس بتقاوم، الناس بتحب تضلها متخبية وخايفة ومرعوبة. عشان هيك قلال المقاومين".
عادت أمي ودخلت المطبخ كي تحضر طعام الغداء وأنا بقيت مع نفسي أجتر في عقلي ما قالته. وفجأة بان كل شيء حين وقفت على الشباك من جديد. كان الشارع هو مسرح المقاومة، وكان سامر هو النازيين وأنا كنت المقاوم السوفياتي، أنا كنتُ القسام، كنت غيفارا: كنت كل المقاومين. خرجت من المنزل مسكوناً بكل الخوف الموجود في الدنيا، لكنه كان خوفاً ممزوجاً بكل الاندفاع المخبأ في الكتب والقصص والحكايا. لم اعد أذكر كثيراً من تفاصيل الحادثة، لكن ما أعرفه أن والدة سامر جاءت إلى منزلنا مولولة بعد ساعةٍ من تلك "المعركة"، مشتكية لأمي لأنني ضربت ابنها وأدخلته إلى المستشفى!
هي لم تكن تعرف أبداً، ولا تهتم أصلاً لو عرفت، بأن ابنها أقعدني في المنزل سنةً بأكملها، هي لم يكن يعنيها أبداً خوفي الدائم، أو سجني الكبير الذي خلقته كي أبقى بداخله خوفاً من "ركلةٍ" أو "صفعة" من ابنها المتنمر. كل ما عنى لها هو أن "المتوحش" هذا، أي أنا، ضرب ابنها. كم يسهل تحويل الحقائق دائماً.
ابتسمت أمي في وجهي حال خروج أم سامر من عندنا، وقالت لي بثقة وهي تدير ظهرها: "ضربتو. منيح، بس ما تعيدها، يا مقاوم".