لا يزال سقوط مدينة الموصل وما تلاها من مساحات عراقية في شهر حزيران العنوان العريض الذي يتحكم بمفاصل اتجاهات الحركة السياسية والعسكرية في العراق، برغم كل التطورات اللاحقة. فذلك الحدث شكّل الأداة الأولى لإعلاء الصوت بشأن مطالب ذات طابع تقسيمي على أساس إنشاء الأقاليم، وما يعنيه ذلك من إعادة تشكيل صيغة الحكم في البلاد، وهو، أيضاً، ما أمّن مساحة للعودة الأميركية، المستترة، إلى بلاد الرافدين بعد الخروج عام 2011.اليوم، قد تكون القطيعة الأولى مع تاريخ التاسع من حزيران قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وذلك بجهود أطراف كانت وليدة حالة المقاومة والمواجهة لمشاريع «داعش»، ومن استثمر، عن حسن نية سياسية ربما، فيها.

المعركة التي تنذر بها الساعات المقبلة هي الأكبر التي ينفذها الحشد الشعبي منذ تأسيسه اذ تمتد على مسافة نحو تسعة آلاف كيلومتر مربع وتشمل منطقتي عمليات: الأولى، تمتد من نهر العضيم شرقا إلى خط اللاين غربا، ومن سامراء جنوبا الى بيجي شمالا. أما الثانية فتمتد من جبال حمرين جنوباً الى الحويجة شمالا، ومن ناحية تازي شرقا الى مدينة بيجي غرباً. ويشارك في العملية منظمة بدر وكتائب حزب الله العراق وعصائب أهل الحق وجند الإمام و»سيد الشهداء، وكتائب الإمام علي و»النجباء. ومعروف أن وجود «داعش» في المنطقة ينحصر في نواحي الدور والعلم وتكريت والحويجة وبيجي. وفي حال نجحت العملية يكون تم تطهير نحو 90 في المئة من صلاح الدين التي تكون قد وضعت على سكة ديالا التي أعلنت خالية من التنظيم الإرهابي. وبالتالي يكون وجود «داعش» قد انحصر في نينوى والأنبار.
منطقة عمليات من 9 آلاف كيلومتر تمهد لتطهير صلاح الدين من «داعش»

ولمدينة لمنطقة العمليات تلك أهمية عالية نظراً إلى موقعها الجغرافي في قلب محافظة صلاح الدين، الأمر الذي يجعل منها صلة وصل مع نينوى شمالاً (حيث الموصل) والانبار غرباً ومحافظة كركوك شرقاً، إضافة لرمزيةٍ (الحديث عن تكريت) كونها (كما يتحدث البعض) كانت معقل النظام السابق، الذي وللإشارة لم تسقط بعض أدواته من الحسابات بعد.
وفي الخلفية، فإنّ أهمية العمليات هناك ستؤمّن الخط الممتد من بغداد مروراً بسامراء وتكريت وصولاً إلى مدينة بيجي، التي تحوي أكبر مصفاة نفط عراقية. وإن استطاعت الحكومة العراقية وضع يدها على هذا الخط الممتد على ضفاف نهر دجلة تكون قد ثبتت السيطرة على شبكة الطرق الاستراتيجية في محافظة صلاح الدين.
وتسير التحضيرات وسط انتشار واضح لفرق من الجيش العراقي وتواجد ميداني لقادة «الحشد الشعبي» في سامراء ومحيطها، في ظل حديث عن إشراف قائد «فيلق القدس»، اللواء قاسم سليماني، على مسار العمليات.
وفي حديث إلى مراسل «الأخبار» (أحمد علاء)، قال القيادي في «منظمة بدر» (إحدى ركائز «الحشد الشعبي»)، علي العلاق، إن «القوات الأمنية حققت تقدما في تحرير بعض المناطق المحصورة بين قضاء الدور ومدينة تكريت»، مؤكداً أن «القوات الأمنية دخلت مناطق الجلام والشيخ محمد والرصاص والبو خدة». وأوضح العلاق، وهو يتحدث من منطقة الجلام، أن «قوات الجيش والشرطة والحشد الشعبي تواصل قصف مواقع داعش في منطقة الدور بالصواريخ تمهيدا لعملية تحريرها». وتابع أن «القوات الأمنية قتلت (أمس) ما يقارب 20 عنصر من داعش كانوا يخططون لهجوم مفاجئ على القوات الأمنية القريبة من قضاء الدور». ولفت إلى أن «عناصر من التنظيم حاولوا السيطرة على خط امداد القوات العسكرية من سامراء إلى تكريت، لكن أفراد الشرطة أحبطوا هذا الهجوم». وأشار في سياق حديثه إلى أنّ «الخطة الأمنية التي تعمل بها القوات في تكريت تنص على الاستمرار بالتقدم حتى دخول محافظة كركوك» لاستعادة عدد من المناطق هناك، وأهمها قضاء الحويجة.
وفي حديث صحافي، قال، أمس، القيادي في «بدر»، كريم النوري، إن «قوات الحشد الشعبي والقوات الأمنية الأخرى متواجدة بالقرب من المناطق في تكريت وناحيتي العلم والدور، ولا يوجد موعد محدد لبدء عمليات تحرير المناطق»، موضحاً أن «تحديدها مرتبط بقرار من القائد العام للقوات المسلحة (رئيس الوزراء) وقادة الحشد الشعبي». وأضاف أن «قوات الحشد الشعبي تعمل بالتنسيق مع كل الجهات لتحرير المناطق من تواجد ارهابيي داعش، بعيدا عن اي خلافات سياسية»، في ظل حديث عن سباق بين «الحشد الشعبي» والبشمركة للسيطرة على المناطق.
وتشير المعلومات إلى أن افتحام تكريت سيتم من ثلاثة محاوز: سامراء وبيجي وطوزخرماتو. وتسير تحضيرات المعركة وسط استكمال تنظيم «داعش» بناء خط دفاعي أول حول المدينة عبر تفخيخ الممرات ــ المداخل الأربعة حولها، القادسية في الشمال الدبوم في الغرب وشيشين في الجنوب والبوعجيل في الشرق. وأشارت التقارير خلال الأسبوع الحالي إلى أنّ مقاتلي التنظيم سدوا مداخل تكريت من الجنوب والغرب والشمال بجدران خرسانية مقاومة للانفجارات يبلغ علوها أربعة أمتار. كما غطوا الجسر فوق نهر دجلة بنحو متر من الرمال لعلها تمتص صدمة القنابل.
كذلك، باتت خطوط «داعش» الدفاعية ترتكز أيضاً على السعي إلى إضعاف أي دور قد تقوم به عشائر من داخل المدينة، وذلك عبر توسيع عمليات الاعتقال في ما بينها، وكان آخرها ما تعرض له، أمس، أفراد من عشيرة العبيد.
ولم يكن احتلال «داعش»، وأطراف مساهمة معه، لمدينة تكريت في حزيران الماضي محض صدفة، بل جاء في سياق واضح. إذ بعد السيطرة على الموصل، فإنّ انطلاق مخطط تنظيم «داعش» لمحاولة التمدد شرقاً حتى الحدود الإيرانية وغرباً لتحقيق اندماج قواه بين الأراضي العراقية والسورية، أمّنه قبل ذلك إنشاء رابط بين الجهتين الجغرافيتين (عمود فقري)، تمثّل بالسيطرة على مدن ضفاف نهر دجلة، من الموصل شمالاً وحتى تخوم بغداد جنوباً. وفي ذلك السياق كانت تكريت عنواناً لتثبيت حضور التنظيم.
في حينه، وفي غضون ساعات، كان التنظيم يهدد بـ»غزو بغداد» وتنذر مشاريعه باندلاع شرارة حرب طائفية جديدة حال تمكنه، مثلاً، من تعريض مدينة سامراء ذات الرمزية الدينية العالية للخطر.
مجموعة من العناصر والعوامل كانت كفيلة بإعادة تثبيت الموازين وبدء عمليات «التحرير»، تحديداً بعدما فككت دعائم مخاطر منتشرة حول العاصمة. لكن مجمل العوامل لم تكن كافية لإعلان القطيعة الأولى مع تاريخ التاسع من حزيران. وهنا أهمية عملية تكريت راهناً.

لماذا الآن؟

سبقت التحضيرات الراهنة لعملية واسعة، عمليات كر وفر حول تكريت في الأسابيع الماضية، لكن لم تفلح في معظمها إلا في رسم أطر للحصار. وقد تكون الإجابة الأولى والمباشرة على التساؤل حول تاريخ انطلاق العملية الموسعة مجرّد القول بأنّ التجهيزات استكملت، بالمعنى الميداني واالوجستي. لكن للعملية وجهها السياسي أيضاً.
ينشغل العراق اليوم، والمنطقة، بالحديث الأميركي عن الاستعدادات لعملية برية تهدف إلى «تحرير» الموصل، ترافق مع تعزيز الانتشار العسكري، الغربي والعربي، في الأردن، وكذلك في مياه الخليج. وهي عملية منَحَ الحديث الأميركي الأخير عنها دوراً متواضعاً لبغداد (بأقل تعبير)، وذلك على حساب إعطاء دور أكبر للمكونات المحلية (من نينوى والانبار) ولقوات «البشمركة»، التي تحاصر الموصل من ثلاث جهات رئيسية.
ولا بد أخيرا من الإشارة إلى حساسية لدى «الحشد الشعبي» من التقدم باتجاه الموصل، خشية من استغلال هذه الخطوة مذهبياً، على أن يبقى ظهيرا عسكريا للقوات النظامية المتقدمة بالتعاون مع عشائر المنطقة والبشمركة بدعم جوي من «التحالف». معركة لم يحدد توقيتها بعد، برغم كل التسريبات، خاصة وأنها تتهدد بانتقال عناصر «داعش» إلى سوريا حيث يتوقع أن يستعر القتال.