طوال تاريخ النضال الفلسطيني وعلى الأقل منذ أن بدأنا نعي القضية الفلسطينية بمفاهمها الثورية الرمزية، وحينما كنا نلتقي بـ«عظماء» كما اعتقدنا، لجهلنا بخلفياتهم التاريخية، ولأنهم وجدوا أطفالاً صغاراً مثلنا يمارسون عليهم دور البطولة، ويصدقون رواياتهم التي بني نصفها على الكذب وتخيل القصص التي حكتها لهم الجدات، كان أولئك الليبراليون، والمقاومون الصدئون ينظّرون علينا، ويروون عن أمجادهم وبطولاتهم في الميدان، وهم لا يعرفون أين هو هذا الميدان، كانوا يعتقدوا أنه مساحة اسمها الميدان، فحينما كانوا يخبروننا قصصهم كنا في الميدان عند دار أبو كذا، معتقدين أن ذاك هو الميدان. كنا نذهب إلى الشارع بعدها نسأل عن ميدان أبو كذا فيضحك منّا القوم، ويقولوا قصدكم دار أبو كذا.. ونقول يبدو أن ميدان أبو كذا هي كلمة سر ولا يجوز لنا أن نفشي الأسرار، دوماً كنا نبحث عن مبررات، معتقدين أن الأمر يحتاج. كبرنا واكتشفنا بعدها كذبهم وخداعهم وتضليلهم، ولكننا شكّكنا بعقولنا وأفكارنا، قلنا ربما لأننا كنا صغاراً لم نفهمهم، ربما نحن لم نستوعب ما كانوا يقولونه حينها، ربما نحن نبالغ في المعرفة والتخيل لدرجة أننا اعتقدنا ذلك، وبقينا على هذا النحو نستدرك لهم الأعذار لأننا لم نعتد على الخداع والكذب، ليس لأنهم هم من علمونا ذلك، بل لأن أهلنا علمونا ذلك، وربّوا فينا روح الانتماء والتضامن بالدم والروح لا بالشموع.

وكنّا كلما نكبر يصغر أولئك الأوباش في عيوننا، يصغر حجمهم لدرجة تنوي البحث عنهم والعثور عليهم لكي تسحقهم بحذائك، وتبصق عليهم وتلعنهم لافترائهم وعيشهم كل هذا الزمان في قالب الثورة والتضحية والشهداء. كبرنا لنكتشف من كان يسرق "بساطيرنا"، وملابسنا الخاصة بالميدان، كبرنا لنكتشف من كان يسرق مجدنا ويسرق الكوفية التي نخبئها في الجدران والبيوت القديمة، كبرنا لنعلم أن الذي سرق علب "السبريه" لم يكن ثورياً، بل "نسونجياً" يصعد على ظهور الآخرين ليقول غير الحق.

كبرنا لنفهم لماذا هذا الملثم كان لا يخلع كوفيته إلا عند مدرسة البنات، ولا يهرب إلا نحو مدرسة البنات، وعرفنا لاحقاً لماذا لم يكن يستبسل إلا بجوار مدرسة البنات، في ذلك الزمن الذي كان للرجولة مواصفات وشكل، كانت للرجولة تعاليم وقوانين، لم يكن سهلاً أن تجتاز حدودك تحت مفاهيم واهية، منها الحرية الفردية والشخصية، كان الوطن همّاً جماعياً، والشغل الشاغل للجميع، لا يجوز لك التجاوز.

هؤلاء الأبطال المصطنعون والكذابون نراهم اليوم يعتلون المنصات، ويقومون بالنيابة عن الوطن ليعلنوا الإلحاد ضد الوطن، وكم أصبحت كلمة الوطن بذيئة وصعبة ولا تطاق! الوطن كلمة مصطنعة كثيراً لا يستعملها إلا رجال المخابرات من أجل أن يدعوك للتعامل معهم بحجة أنهم هم أيضاً يخدمون الوطن، وأينما ذهبت، ولأي نوع من أنواع المخابرات العربية تجدهم يقولون لك الوطن، كلمة قريبة لمعنى سافل لا يجوز لك أن تقولها لأبنائك أو في بيتك بين العائلة، ربما كلمة البلد أكثر جمالاً ونقاءً وحقيقة من الوطن، لأن ابن البلد يبقى ابن بلد، وابن أصل.

أولاد الوطن كسروا أبناء البلد حتى هذه اللحظة، كذبوا وأقسموا أغلظ الأيمان بأنهم يعملون ما يعملون من أجل الوطن، وعرفنا ما هو الوطن، لم يكن فلسطين يا صفية (تلك المرأة التي كانت في قصة غسان كنفاني)، فكان الوطن أقل بكثير مما استحق من دماء، هؤلاء الرعاع من الإبل شكّكوا في المقاومة وغيّروا مفاهيمها بما يتناسب وكروشهم، وملابسهم التي استلفوها من بنك الدماء، وكرهوا أي انتصار، يكرهون الميدان الذي يظهرهم كالنعاج، لا يحبون أن ينتصر غيرهم لئلا تتبين ملامحهم، يريدون أن يقولوا لكل من يحاول أن يستعيد هذا المجد أننا ضعفاء وموازين القوى ليست لصالحنا، وظهر من ظهر من أجيال كنّا لا نراها، وحققت ما لا يمكن لعقل صغير مثل عقولنا أن يتوقعه.