قررت مصر، إذن، خوض حرب مفتوحة ضد «الإرهاب». فالدولة التي كانت تتوخى المشاركة المباشرة في حرب التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش»، مقتصرةً على الدعم اللوجستي والمعلوماتي، صارت جزءاً رئيسياً من الهجمات الجوية، بعدما كانت تعتبر أنها تؤدي «فرض كفاية» في سيناء. لم هي حرب مفتوحة؟ تأتي الإجابة من جانبين: الأول أن مصر ستعمل خارج حدودها للمرة الأولى (على الأقل بصورة معلنة) من دون إطار زمني محدد، والثاني نابع من فهم تركيبة الجارة الغربية، ليبيا، على الناحية الجغرافية بداية، ثم التركيبة القبلية والفصائلية... وتوزع الجسم السياسي للدولة، ما بين شرق البلاد وغربها.
بل أكثر من ذلك، فقد كشف مصدر دبلوماسي مصري، رفيع المستوى، أن بلاده تسعى لتشكيل تحالف يشارك في الضربات الجوية ضد ليبيا يضم كلاً من فرنسا وإيطاليا والسعودية والكويت والإمارات، مشيراً إلى أن مباحثات مصرية روسية تجرى من أجل الحصول على الدعم الروسي، في العمليات التي يشنها الجيش المصري في ليبيا، على ما نقلت وكالة «الأناضول».
وقبل الحديث عن الإخفاقات والإنجازات في ساحة سيناء شرقاً، أو تقدير ظروف الجيش المصري وقدراته، فإن النظر إلى الساحة الليبية يجلب القول إلى أن ما قررت القاهرة فعله يربو على كونه بمستوى المغامرة أو المخاطرة، فهي «مقامرة» قد لا تكون محسوبة النتائج، لأن تعريف «داعش» في ليبيا يختلف عن العراق وسوريا، وحتى عن شرق مصر.
المشاركة الجوية المباشرة
لن تنفصل في أسبابها وارتداداتها عن سيناء
إذ إن وجود كيان واضح المعالم في تلك المناطق يساعد من يريد محاربته وتوجيه ضربات إليه، بغض النظر عن الفارق بين القصف من الجو، والمحاربة الحقيقية في البر. ذلك يدفع إلى السؤال عن أي «داعش» يريد الرئيس، عبد الفتاح السيسي، أن يستهدفه في ليبيا، فحتى الخبراء في شؤون هذه الجماعات يذكرون أن «الخليط المسلح» في مدن بنغازي ومصراتة وطرابلس، وصولاً إلى «ولاية برقة»، التي بايعت أبو بكر البغدادي قبل أشهر، كلها متقلبة الولاءات، وتتنازعها الانتماءات القبلية والمناطقية قبلاً.
وحتى مع وجود حليف، لو كان مصالحياً، كخليفة حفتر وقواته، فإن هذا لن يضمن لمصر أن تحصد نتائج قصفها عبر البرّ؛ فحفتر الذي يعمل منذ أكثر من عام في ثورته المسماة «عملية الكرامة» لم يحقق أي إنجاز ميداني، مع أن القصف المكثف قد يساعده على التحرك وتسجيل نقاط أكثر، في وقت يقف في وجهه «داعش» وغيره من التنظيمات الإسلامية وغير الإسلامية.
فوق كل ذلك، يجري الافتراض المصري على أن هذه الضربات ستضر بقدرات «داعش»، لكنها في الحقيقة لن تمنع التنظيم من مواصلة عملياته ضد المصالح، بل الأراضي، المصرية، على أكثر من صعيد. فمن المعلوم أن ليبيا تحتضن جالية مصرية تقدر بنحو نصف مليون، فضلاً عن حدود طويلة تمتد إلى قرابة 1150 كلم، إلى جانب مصالح اقتصادية متنوعة. يزيد على هذا التهديد بتحريك ساحة الشرق المصري عبر «ولاية سيناء»، وهو ما لمّحت إليه بيانات منسوبة إلى «ولاية برقة» هددت مصر باستهداف مواطنيها في ليبيا، فضلاً عن فتح جبهات في صحراء برقة وفزّان، ثم «انتظار خبر قريب من فوارس ولاية سيناء».
وما يعقّد المشهد أن الأطراف الليبية السياسية ليست راضية جميعها بالضربات المصرية، إذ ترى فيها أطراف بارزة كـ«المؤتمر الوطني الليبي» انتهاكاً للسيادة الليبية على غير ما كان يقال وقت الهجوم الدولي على نظام العقيد معمر القذافي، فيما تتشارك ما تسمى «مجالس شورى المجاهدين» في المدن والمناطق المستهدفة الاعتراض نفسه، آخذة على الجيش المصري سقوط ضحايا مدنيين في الضربات أمس. كذلك ربط بين ما يجري الآن والاتهامات السابقة للمخابرات العامة في القاهرة بالتعاون مع حفتر ضمن حلف إماراتي لتقويته أمام الفصائل المدعومة من قطر.
كل ذلك يقود إلى الخوف من اشتعال ليبي ضد الجالية المصرية وازدياد عمليات الاختطاف بحقها، وخاصة مع غياب أي أنباء عن مصير 21 صياداً مصرياً خطفوا قبل ذبح الأقباط بيوم، فضلاً عن أن الذاكرة بين البلدين تحمل فألاً سيئاً تجاه الحدود التي تعتبر مصدراً أولاً للسلاح والمقاتلين إلى دول أخرى، كسوريا والعراق، فمن يتذكر عقد السبعينيات و1400 قتيل سقطوا من الطرفين في معارك لم تدم سوى ثلاثة أيام، يعلم ماذا تعني الفوضى على 1200 كلم.
وليس أخيراً، فإعادة الضغط على مصر من بوابة سيناء ستحد حتماً قدرات جيشها، لأن الجيش مهما عظمت إمكاناته لن يستطيع العمل على جبهتين، ضامناً بذلك أن «ينتصر» في إحداهما، وخاصة أن المعارك الدائرة بين فرّ وكرّ ليست معارك تقليدية، بل هي حرب مفتوحة الزمان والخيارات.
أما داخلياً، فينظر إلى الرد المصري من عدة زوايا تحركها القناعات السياسية المتكونة لدى الأطراف المختلفة، أيضاً، في مصر؛ فالدولة ترى أن جماعة الإخوان المسلمين جزء أساسي في مشاركة «داعش» و«القاعدة» تكوين حزام أمني غربي مضاد للدولة، فيما تنظر الأطراف الإسلامية، وبعض القوى الأخرى، على أن القاهرة تخوض حرباً ليست بحربها، رغم الاتفاق على أن ما جرى بحق الأقباط «جريمة». كذلك لا يخفى أن كل هذه التطورات تجري فيما يحاول النظام الحالي تثبيت أركانه عبر الشرعية البرلمانية والاستثمار الاقتصادي، فأي تورط كبير يودي بالمعركة مع «داعش» إلى نتائج سلبية على حكم السيسي، كما سينظر إلى أي «إنجاز» على أنه جزء من معركة تعزيز الحكم الواحد.
وبشأن خيار المشاركة البرية (التفاصيل على الويب)، فإن مصادر مطلعة أفادت لـ«الأخبار» بأن «مجلس الدفاع الوطني يدرس إمكانية تدخل فرقة خاصة من القوات المسلحة للمساهمة في إجلاء المصريين العالقين في ليبيا، بعدما هددت جماعة مسلحة أمس بمنحهم 48 ساعة للمغادرة»، وهو ما تقاطع مع تصريح وزير الداخلية، اللواء محمد إبراهيم، لـ«الأخبار»، بالتشديد على أن «كل الخيارات مفتوحة لحماية المصريين باعتبار حياتهم مسؤولية الدولة»، لافتاً إلى أن خيار التدخل البري لإجلاء مواطنيه وارد «إذا استلزم الأمر ذلك... على أن يكون وفق إجراءات تضمن سلامة المغادرين والقوات المشاركة في عمليات الإجلاء».