لم أنظر يوماً إلى قامة العم "أبو جلال" الطويلة والضخمة باستغراب... كنت أجد أن قامته الطويلة أمرا طبيعياً يتناسب ومكانته الرمزية في حياتي. شيء مثل تماثل المعنى والشكل. وعنه كنت أقول: "هذا الفلسطيني لا أحد يشبهه"، وذلك اكتشاف لم يكن ابن السنوات الخمس عشرة الذي كنته ليحتاج إلى براهين ليخلص إليه، فقد كان عبد الحافظ عرابي "أبو جلال" تباعاً أستاذ الرياضيات في المخيم، ثم الطبيب البشري، فأخصائي الطب الشرعي. وفي كل مرة كان ابو جلال يثبت انه الفلسطيني الذي لا يشبه احداً ولا أحد يشبهه.
هارب من حكايات الجدات كان يبدو لي العم أبو جلال. في سيرة "التغريبة الفلسطينية" كان الرمز الذي لم يحمل سلاحاً، مثله مثل ناجي العلي، يخرج من طين المخيم ليصنع حضوره المختلف. هو واحد من الفلسطينيين الذين صاروا يوماً ما يريدون رغم كل ما كان يراد لهم، فطوّع مستحيل النكبة ومكابدات اللجوء، لتصير واقعاً على قياس طموحه وحلمه.
ومن بلدته صفورية قضاء الناصرة في فلسطين، إلى دمشق، فالجزائر، عودة إلى دمشق، كان الرجل يعيد ترتيب حياته وفق ما تقتضي ظروفه. دراسة الرياضيات فتعليمها في مدارس المخيم والجزائر. ثم العودة ليصير واحداً من أشهر مدرسي الرياضيات للشهادة الثانوية في دمشق، ويعود بعدها طالباً من جديد، يجلس وسط تلاميذه ليقدم امتحانات الشهادة الثانوية العامة، وينالها بتفوق، ويلتحق بالجامعة، حيث جلس إلى جانب طلاب بعمر أبنائه ليدرس الطب البشري.

بإحدى يديه، كان العم أبو جلال يرسم بطباشيره منحنيات البيانات الهندسية لطلابه، وباليد الأخرى كان يرسم على مقاعد كلية الطب البشري بجامعة دمشق منحى جديداً لحياته. صار أستاذ الرياضيات، في النهاية، طبيب المخيم.
سنوات مرت كنت أكبر أنا وابنه جلال وأراه على الصورة ذاتها؛ يقرأ... ويقرأ... وفي كل مرة كان يتعلم ويعلمنا الدرس ذاته: كيف نكون أكبر من ظروفنا. وكيف أن مستحيل الفلسطيني، ليس سوى قطعة من حديد لا تفُلُّ إلا بالإرادة. إرادة أن نصير يوماً ما نريد.
قامة العم أبو جلال العالية كانت بالنسبة لي تشبه تلك التي كتب درويش عنها مديح الظل العالي، هذا اعتراف ربما لم أقله من قبل لأنني لم أكن أعيه.
في الغالب ثمة أشياء في دواخلنا، نعيشها في عقلنا الباطن من دون أن نجهد أنفسنا بتفسيرها، إلى أن يأتي الوقت لنكتب عنها، وقتها لا بد من إيجاد التفسير.
أما ما كنت أعرفه، ولا انتظر وقتاً لأتبينه، هو أن هذا الفلسطيني لا أحد يشبهه، وأن قامته الطويلة كانت يجب أن تكون طويلة، لأنه الكبير، الكبير في حياتي، حياتنا جميعاً.
ما زلت حتى الساعة أقاوم فكرة أن العم أبو جلال مات... مر عام كامل على خبر وفاته، قلت هذا الفلسطيني كأسطورته لا يموت، ثم قلت حتى لو فعلها العم أبو جلال ومات فأنا لا أتصور كيف لقامته الطويلة أن تنحني، في الغالب هو دفن واقفاً...
في الحقيقة لم أسأل حتى الساعة كيف دفنوه... تقصدت ألا أسأل، ثم قلت لنفسي حتى لو دفن مسجى... فهو في مخيلتنا على الأقل، دفن واقفاً.
العم أبو جلال واحد من عشرات الفلسطينيين، لم تعرفهم أضواء الشهرة، ولا تريدهم كاميرات التلفزة إلا بدور الضحية. هو صنع، مثل الكثيرين، صورة غير تلك المضرجة بالدم والشفقة على الفلسطيني، ونهض من تحت سقف البؤس الواطئ، كما أم سعد في رواية غسان كنفاني، ليدفع ما يستطيع عنه تلك الصورة، مكرساً صورة واحدة بعينها، لا ينفع معها وعنها سوى تعليق واحد: "هذا الفلسطيني لا أحد يشبهه".