السليمانية | بعد الجلطة الدماغية التي أصابته في ١٧ كانون الاول ٢٠١٢ حيث نقل للعلاج في ألمانيا، حاولت كثيراً زيارته هناك، وهو ما كان مستحيلاً بسبب وضعه الصحي الحرج. وكان الأطباء الألمان في الأشهر الأولى لعلاجه لا يسمحون إلا لزوجته وأولاده بدخول غرفته الخاصة في المستشفى المركزي في برلين حيث كنت على اتصال شبه دائم مع المقربين منه للاطمئنان على صحته التي بدأت تتحسن مع بداية العام الماضي، إلى أن عاد الى السليمانية في تموز العام الماضي ومعه فريق من الأطباء الألمان ويساعدهم الآن فريق آخر من الأطباء الإيرانيين الموجودين في السليمانية باستمرار.
ولكن من دون أن يعني ذلك أن زيارة الرئيس جلال الطالباني كانت ممكنة للجميع بسبب وضعه الصحي الخاص. وما كان عليّ الانتظار حتى أول من أمس حتى سمح المقربون منه لي بزيارته كصديق وليس كإعلامي والحديث معه عن مجمل تطورات المنطقة. فهو صديق عزيز عليّ منذ حوالى ٣٠ عاماً تعلمت خلالها الكثير من مام جلال، واتفقنا خلالها أيضاً حول كل الأمور والقضايا التي كنّا نتحدث عنها بفارق بسيط انه زعيم ومناضل سياسي ورئيس جمهورية وأنا صحافي دائماً. وكنت ومام جلال من القلائل الذين راهنوا منذ البداية على صمود الدولة السورية وبقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة مهما كانت التحديات والمخاطر التي استهدفت سوريا منذ البداية. فقد قال مام جلال ذلك لكل من التقى بهم كرئيس للجمهورية، بمن فيهم باراك أوباما ورجب طيب أردوغان.
ولهذه الأسباب كانت سوريا الموضوع الاول في حديثي مع مام جلال:
"يا مام جلال دعني أقل لك إن صحتك وأناقتك أحسن مني بكثير وكأنك في ريعان شبابك". ضحك كثيراً من دون أن يعلق على ذلك، لأنه لم يستطع الحديث بجمل طويلة بسبب الجلطة التي أصابته ولم تؤثر فيه الا في أمور بسيطة جداً، وأعتقد أنه سيتجاوزها خلال أشهر قليلة. فهو مام جلال المعروف عنه نضاله العسكري والسياسي منذ حوالى ٦٠ عاماً تحمل خلالها الكثير من المصائب والأتعاب بكافة أشكالها.
"مام جلال هل تريد أن نبدأ الحديث بالوضع السوري". هزّ رأسه موافقاً، وقال بكلمة واحدة وهو يبتسم: نعم. شرحت له الوضع السوري بكل جوانبه واحتمالاته الحالية والمستقبلية والدور التركي والسعودي والقطري في الأزمة السورية منذ بدايتها، وقلت له إن الرئيس بشار الأسد كان يستفسر مني باستمرار عن وضعه الصحي. ضحك مستفسراً عن وضع الرئيس بشار الأسد الذي تربطه به ومن قبله مع الرئيس الراحل حافظ الأسد علاقة صداقة ووفاء قوية. فالصورة الوحيدة التي توجد في مكتبه الخاص عندما كان في بغداد هي مع الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما كان مام جلال يقيم في دمشق التي طالما افتخر بوجوده فيها خلال نضاله السياسي ضد النظام الصدامي. وأما في السليمانية فصورته مع الرئيس بشار الأسد موجودة على مكتبه الخاص في منزله حيث استقبلني هناك، في الوقت الذي كان يستقبل فيه المسؤولين العراقيين في مكتبه الرسمي عندما كان رئيساً للجمهورية حتى تموز العام الماضي.
وكان العراق وداعش هما الموضوع التالي في حديثي مع مام جلال الذي كان يستمع بدقة. كان دائماً دقيقاً في فهمه وتحليله للأمور. وكان خلال الحديث يحاول أن يستفسر حول المزيد من التفاصيل بأسئلة بسيطة وكلمات أو جمل قصيرة. وكان لكل سؤال معنى مهم بالنسبة إلي، لأنني كنت على يقين تام بأنه لو كان مام جلال رئيساً للجمهورية لما وصلت الأمور في العراق والمنطقة الى ما وصلت اليه، لما له من شخصية توافقية كانت تساهم في لملمة الصف العراقي الذي وصل الى ما وصل اليه بسبب التدخلات والتجاذبات الإقليمية. قوى أرادت للعراق وبعدها سوريا أن يصلا الى ما وصلا اليه وتحت شعارات طائفية استفادت منها "داعش" التي كانت وليدة هذه التجاذبات الخارجية، بل وحتى الداخلية، حيث راهن البعض من القوى السنية في العراق، بتشجيع واستفزاز من الدول الإقليمية وخاصة تركيا وقطر والسعودية ودول الخليج الاخرى، على حسابات ومشاريع إقليمية ودولية اعتقدوا بأنها ستساعدهم لإقامة كيان سنّي في العراق يتصدى "للمدّ الشيعي الإيراني في المنطقة".
كان مام جلال في كل لقاءاتي السابقة معه في بغداد أو السليمانية يرفض مثل هذه الأفكار ويؤكد على ضرورة العيش المشترك لكل فئات الشعب العراقي، وهو ما يجعله يختلف أيضاً عن مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، الذي لا يفوّت أي فرصة للحديث عن الدولة الكردية، حتى عندما كان الكردي مام جلال رئيساً للجمهورية العراقية. وهو استغل مرض الطالباني ليفرض نفسه على الشارع الكردي في العراق، ودفعه ذلك إلى الدخول في تحالفات خطرة مع أطراف إقليمية، وفي مقدمتها تركيا.
كان واضحاً من ملامح الطالباني أنه غير مرتاح تماماً للوضع الحالي في العراق وسوريا والمخاطر التي تستهدف المنطقة عموماً بسبب "داعش" والقوى الاسلامية المتطرفة، لما يملكه هو شخصياً من ثقافة ومعلومات واسعة جداً عن أمور الدين الاسلامي بالمفهوم العقائدي والفقهي والفلسفي والسياسي والاجتماعي. ولم يخف مام جلال عدم ارتياحه بل وقلقه من كل الذي قلته له في ما يتعلق بداعش عراقياً وسورياً وإقليمياً ودولياً، وخاصة عن أنها حصلت ولا تزال على مساعدات مباشرة وغير مباشرة من تركيا، على الأقل في ما يتعلق بمرور الآلاف من المقاتلين الأجانب الى سوريا عبر الاراضي التركية، وهو ما يتحدث عنه حتى المسؤولون الأوربيون والأميركيون، بمن فيهم أنجيلا ميركل وجوزف بايدن.
وعندما كان الحديث عن الدور التركي في موضوع "داعش"، أراد مام جلال، ومن خلال تدخلات مساعديه، أن يفهم المزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع الذي وافقني عليه دائماً بملامح وجهه، بعد أن أبدى قلقاً كبيراً من العلاقة بين داعش وتركيا، وهي حديث الشارع الكردي في العراق عموماً. وأراد مام جلال أن يسمع عن الوضع الداخلي في تركيا، وخاصة الحوار بين حكومة أردوغان وحزب العمال الكردستاني من أجل حل المشكلة الكردية، وبالتالي الموقف التركي تجاه كوباني، أي عين العرب السورية. وعندما شرحت له كل التفاصيل الخاصة بهذه الأمور والاحتمالات المستقبلية مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية التركية في ٧ حزيران المقبل، بدا مرتاحاً جداً لأن تركيا بالنسبة إليه مهمة لأسباب كثيرة، أهمها العدد الكبير من الأكراد هناك وعلاقتها بالغرب المعروف عنه اهتماماته بالقضية الكردية.