القاهرة | ما جرى لجماهير «الألتراس» المصرية قبل أيام، ليس الحلقة الأولى من عنف السلطة ضدهم، فمذبحة بورسعيد التي خلفت 74 قتيلاً (للمصادفة فإنها جرت أيضاً في شهر شباط 2012)، لا تزال تداعياتها حاضرة في الأذهان، والحديث عن تورط رسمي فيها ماثل للعيان، إما بشهادات الناجين، وإما بمسارات الأحداث نفسها، وكذلك مع الاحتجاجات التي تلتها.حتى بعد صدور حكم الجنايات على 21 متهماً آخرين بالإعدام، وبراءة جميع متهمي الشرطة ما عدا واحداً حكم عليه بـ15 عاماً، فإنه حكم لم يرض «الألتراس» الذين هاجموا مقرّ اتحاد كرة القدم، ومقرّ نادٍ اجتماعي تابع للشرطة بجواره، وأحرقوهما عقب النطق بالحكم في 9 آذار 2013، قبل إحالة الحكم على محكمة النقض كآخر درجة للتقاضي.

وفق المعلومات، فإن هناك من حرص على الزج بـ«الألتراس» مجدداً في حلبة الصراع الداخلي، وخصوصاً أن الحادثة، مثل نظيرتها التي جرت في بورسعيد، قد تكون شرارة لاشتعال أحداث أكبر وأوسع. أمر يؤكد ما ورد في البيان الرسمي لـ«ألتراس الزمالك» الذي أكد أنه لن يدخل التقاضي، لأن الحقيقة واضحة أمام العالم، والقاتل والمحرض والمجني عليهم كلهم معروفون. فكان البديل توجيه تحذير شديد اللهجة للسلطة، بأن «بطشها فاق المدى»، وللقضاة بأن المحاكم لا تنصر حقاً ولا تقتص لمظلوماً، وصولاً إلى إعلان أنه آن الأوان ليمروا «السلطة والقضاة» على محاكم «الألتراس»!
صدامات الأمن المتكررة، والمتعمدة، مع «الألتراس» تأتي في سياق رغبة النظام في منع أي تجمع جماهيري لم يمرّ عبر إطار النظام نفسه، ففكرة وجود رابطة تجمع جمهوراً خارج دوائر ربط الحكم أمر يعاديه النظام ويحاربه، إمعاناً في السيطرة والتحكم في المجال العام، وخاصة منذ ما تلا «25 يناير»، وصولاً إلى مرحلة التأميم التام للمجتمع.
ويبدو مَن في القاهرة منطلقاً من قناعة تفيد بأن التنظيمات المنضبطة والقادرة على الحشد والتوجيه «الألتراس/الإخوان المسلمون» كانت أحد أهم الأسباب في إسقاط الرئيس حسني مبارك، وهو أمر يحاول النظام الحالي، مدفوعاً بقلقه من «تجربة يناير»، تفاديه، وذلك بضرب التجمعات وتفكيك أي روابط جماهيرية لم تمرّ عبر بواباته، حتى لو لم يكن لها أهداف سياسية، وخصوصاً أن «الألتراس» لهم دور مهم في جمعة الغضب 28 يناير 2011 التي شهدت مهاجمة وإحراق سيارات وأقسام الشرطة، بالاستناد إلى «ثاراتهم» القديمة مع قوات الأمن التي كثيراً ما صادمتهم، قبل المباريات وأثناءها وبعدها.
يوماً على يوم، تتولد قناعة لدى شباب «الألتراس» بأن «كل رجال الشرطة أوغاد»، وهو ما كتبوه باللغة الإنجليزية «All cops are bastards» خلال احتجاجاتهم، بل صنعوا له اختصاراً ACAP، كذلك خلّد «الألتراس» ما جرى يوم الـ28 بأغانٍ من أهم ما يرددونه، كـ«مش ناسيين التحرير» و«الجوز الخيل والعربية» و«كان دايماً فاشل»، والأخيرتان تحويان انتقاداً وسباباً وتأريخاً للعلاقة بين «الألتراس» والأمن.
أمور كثيرة تبدو ظاهرياً منفصلة، لكنها في حقيقة الأمر متصلة، وهي ترتبط بطريقة ما مع الغضب من عودة أحمد عز وهاني سرور وكبار رجالات الحزب الوطني «المنحل» بحكم قضائي إلى صدارة المشهد السياسي مرة أخرى، رغم أن خروجهم من السجون كان بناءً على اتفاق مع الدولة باعتزالهم العمل السياسي. ومع أن عز، تحديداً الذي يحمله كثيرون مسؤولية كبيرة عن انهيار نظام مبارك، تلقى تحذيراً شديد اللهجة بالتزام أعماله التجارية ومصانعه فقط والبعد عن السياسة، فإن عودته مرة أخرى وتوجيهه خطاباً إلى الناخبين يتحدث فيه بكل ثقة عن «أن معركة الماضي بنجاحاتها أو أخطائها، أياً كانت التفسيرات والمواقف الخاصة بكل تيار سياسي لهذه النجاحات أو الأخطاء، قد انتهت بتوحد الشعب على كلمة سواء خلف مؤسساته الوطنية»، أمر يحسم بشدة من رصيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك بالتوازي مع الحملات الإعلامية الهجومية على الرجل، والتغييرات الحادة في توجهات بعض المنصات الإعلامية المساندة له، ما يؤكد بشدة أن هناك جناحاً أو أجنحة في السلطة تتصارع، إما تثبيتاً لمكانتها في النظام الجديد، وإما لإزاحة خصومها.
هجمات الإعلام وصلت إلى حد استدعاء ذات الكلمات التي قيلت سابقاً لمحمد مرسي قبل عزله: «مش قد الشيلة ما تشيلش»، وهي نفسها التي تكررت على لسان عدد من المذيعين، بينهم جابر القرموطي العامل في قناة «أون تي في»، إذ قال: «اللي مش قادر يشيل يمشي من رئيس الجمهورية إلى أصغر مسؤول».
بالعودة إلى صلب الموضوع، فإنه منذ بداية التعامل الإعلامي مع مجزرة «الدفاع الجوي» (راح ضحيتها 23 مشجعاً قبل أيام)، دافعت منصات الإعلام المصري كلها تقريباً عن الشرطة وهاجمت «الألتراس»، ثم تغير الأمر في الليلة التالية حين هوجم السيسي، ومحمد إبراهيم (وزير الداخلية) في العديد من القنوات الفضائية، لينبري آخرون للدفاع عنهما. أمر لا يبدو عفوياً لمن يدرك قوة سيطرة النظام على الإعلام، وخاصة في ما بعد 30 يونيو، بالإضافة إلى أنه لا يبدو انقساماً استهلاكياً لامتصاص غضب الشعب من الحادثة وتنفيس الاحتقان، لأن النظام يدرك جيداً أن تكلفة القتل خارج تظاهرات «الإخوان» عالية جداً ومكلفة، كما تثير نقمة وغضباً شعبياً حقيقيين!
اللعب بين الأطراف وصل إلى حد تسريب معلومة من رئاسة الجمهورية لبعض الصحف والمواقع الإعلامية، عن أن وزير الداخلية سيقدم استقالته للرئيس فجر يوم المذبحة، لكن البيان الرسمي الصادر من «الداخلية» قال إن الوزير إبراهيم يمارس مهماته في المكتب منذ السادسة صباحاً، وإنه مستمر في أداء واجبه.
التضارب في المواقف الحكومية كان واضحاً، فالبيانات الرسمية التي حملت «تدافع» الجماهير مسؤولية ما جرى، عادت لتقرر صرف تعويضات من الحكومة واتحاد الكرة للضحايا من أجل امتصاص الغضب الجماهيري، ومجدداً، إيماناً منها بأن تكلفة القتل خارج «الإخوان» عالية.
طبقاً لشهادات الناجين من المجزرة، ودونوها على موقع «فايسبوك» أو في فيديوات متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الاستنتاج الوحيد الذي يمكن الخلوص إليه أن هناك من تعمد من قوات الأمن التعامل العنيف مع شباب «الألتراس»، سواء بشراء كل التذاكر من رئيس نادي الزمالك «أحد أكثر كارهي الألتراس»، ثم إعادة توزيعها، رغم الإعلان الرسمي عن دخول الاستاد بالمجان، أو نقل المباراة من استاد «المقاولون العرب» إلى «الدفاع الجوي»، أي خارج الكتلة السكنية في القاهرة.
تتضافر كل هذه المعطيات لتعطي «شبه يقين» يوصل إلى قناعة فحواها أنه لا يمكن تحميل الحساسيات المفرطة بين الطرفين، ولا حتى تحميل ضعف الكفاءة والتدريب السيئ لقوات الأمن، مسؤولية وصول عدد الضحايا إلى نحو 30 قتيلاً دون المصابين، فسوء التدريب لا علاقة له بحشر الجماهير في قفص، وإطلاق الغاز المسيل للدموع عليهم داخله!
وبرغم حرص «الألتراس» على التأكيد أنهم مشجعون رياضيون فحسب، فإن كل الأطراف المتصارعة في الجمهورية تحرص على توظيف فعالياتهم أو الاستفادة منها. الآلة الإعلامية الإخوانية وظفت المذبحة سياسياً بتأكيد أن آلة القتل لن تفرق بين الشاب الإخواني والشاب مشجع الكرة، إذ نشرت صورة لأحد ضحايا المجزرة حاملاً صورة السيسي، في جمعة التفويض التي طلبها الأخير عقب عزل مرسي، فيما تحاول أطراف في الآلة الإعلامية الرسمية ترسيخ قناعة بأن «الإخوان» هم من وراء الحادث بنشر صورة لأحد ضحاياها مشيراً بإشارة «رابعة» كتأكيد أن للجماعة أيادي خفية وراء الحادث.
عموماً، حضور «الألتراس» الطاغي كان سبباً في محاولات النظام الحالي استقطاب بعض (كابوهات ـ قيادات) «الألتراس» مراراً وتكراراً من طريق اللاعبين المشهورين أو أعضاء مجالس إدارات الأندية، ولكنهم فشلوا، كما أخفقت قيادات «الإخوان» إبان فترة مرسي في تدجين «الألتراس» وتهدئة احتجاجاته.
والآن، امتداد الصلة بين السياسي والرياضي في مصر، وتشابك الخيوط بعضها ببعض، هما الدافع لدى جماعة «الإخوان» في استنساخ تجربة «الألتراس» في فعالياتها الاحتجاجية المتواصلة منذ عزل مرسي، سواء في طريقة الأغاني أو إلقاء الشماريخ والألعاب النارية، وحتى العروض والأعلام وبعض المصطلحات الخاصة أو رفع رايات مع صور الشهداء التي يطلق عليها «الألتراس» مسمى «سنارة».
كذلك تخطى الغضب الشعبي الواسع من الحادثة إلى غضب على السيسي نفسه الذي احتفى بزيارة رئيس روسيا، فلاديمير بوتين، في حفل راقص في الأوبرا، في الوقت الذي كانت فيه سرادقات العزاء منصوبة لضحايا الحادث، وهو ما دفع «هاشتاغ» دشنه رواد مواقع التواصل الاجتماعي بعنوان #مجزرة_الدفاع_الجوي ليحتل موقعاً بارزاً في صدارة قائمة الهاشتاغ المصري على المواقع الاجتماعية.
نهاية، فبرغم التنافس والشحن المتبادل بين ألتراسات الفرق الكروية المتنافسة في مصر، بقيت روح التضامن بينهم عالية جداً. المذبحة التي جرت لجمهور الأهلي قبل عامين شهدت تضامناً واسعاً من ألتراسات الأندية الأخرى، وشارك بعضها في الفعاليات المطالبة بالقصاص لشهداء بورسعيد. كذلك شهدت الحادثة التي جرت قبل يومين، تضامناً واسعاً بين الألتراسات الأخرى، من بينها إعلان أحد جناحي ألتراس الأهلي اعتزالهم التشجيع من الملعب لهذا الموسم احتجاجاً على ما جرى.