غزة | أخيراً، كافأ حاكم غزّة، فعلياً وأمنياً، الجزار الإسرائيلي بتمتين اقتصاده الذي يشكّل عصب سياسته العنصرية والاستيطانية، فهو، من حيث يعلم ولا يعلم في آن واحد، حفّز الغزيين على دفع ثمن قتلهم استباقيّاً كرمى لعيون التنفيس عن أزمته الحكومية الممتدّة منذ أشهر. والآن، عادت أسواق القطاع لتغرق ببعض المنتجات الإسرائيلية التي ظلّت غائبة عنها لسنوات، وذلك بقرار رسمي من وزارة الاقتصاد، التي تحكمها «حماس» فعلياً.
ورغم خفوت صوت الانفجارات في غزّة، فإن الحرب الاقتصادية والسياسية لا تزال ماثلة أمام أنظار أهلها. ولم ينجح الدم المسفوح في منع الشعارات الموسمية بوجوب مقاطعة منتجات الاحتلال. كذلك فإن جملة المبررات لتلك السقطات الوطنية جاهزة هذه المرة. فقد صارت جملة «الضرورات تبيح المحظورات» قاعدة ثابتة في القاموس الحمساوي، حتى إذا كانت «الضرورات» شؤوناً مصلحيّة خاصة، كالاستفادة من الرسوم والضرائب.
يرى مسؤولو مقاطعة البضائع الإسرائيلية أن الأزمة الاقتصادية ليست مستجدة

وتسوّق «الاقتصاد»، للسماح للبضاعة الإسرائيلية بالدخول إلى القطاع، حجّة «ضرورة ملء الفراغ في الأسواق، بعد ضعف القدرة الإنتاجية للمصانع التي أصابها الدمار الكبير خلال الحرب الأخيرة على غزّة». لكن من يقرأ باطناً تلك الحجج، يرى فيها «ضحكاً على الذقون»، وخصوصاً أن المنتجات الإسرائيلية التي تم توريدها مؤخّراً، كالعصائر، تتوافر البدائل المناسبة لها في السوق. أيضاً تناقض الحجة المذكورة «موشّح» الدفاع عن حقوق المستهلك الغزي، فالأخير وحده من يتحمّل تبعات الرسوم الإضافية المرتفعة على المنتجات الإسرائيلية الموزّعة بين مشروبات وقهوة وملابس.
ورغم إنكار وزارة «الاقتصاد الوطني» وجود أي رابط بين منتجات العدو والرسوم (الضرائب) الإضافية الأخيرة، والاكتفاء بالقول على لسان وكيلها المساعد، عماد الباز، إن «الوزارة بالتنسيق مع المالية فرضت رسوماً إضافية على بعض البضائع الي تدخل القطاع، ولكن بطريقة لا تؤثر سلبياً على المواطن»، يرى الخبير الاقتصادي، ماهر الطبّاع، أنّ «الرسوم المفروضة على المنتجات مرتفعة جداً، ولا تناسب الأوضاع الاقتصادية في غزة التي ترتفع فيها معدلات البطالة والفقر».
ويضيف الطباع: «المستهلك سيتحمّل الرسوم الإضافية على تلك المنتجات في حال رغب في شرائها»، علماً بأن وكيل «الاقتصاد» قال في حديث صحافي قبل شهر: «بدأنا نفكر في طريقة تهدف إلى تحصيل مبالغ من بعض المنتجات بما لا يؤثر في المواطن، وذلك لتغطية نفقات الوزارة نتيجة عدم صرف الحكومة (التوافق في رام الله) النفقات التشغيلية للوزارات في القطاع».
هذه الخطوة تأتي ضربة لماضي خمس سنوات من مفاخرة وزارة الاقتصاد بسياسة «إحلال الواردات»، القاضية بدعم المنتج الوطني ورفع اليد عن الترويج التسويقي لمنتجات العدو، وها هي تقلب الطاولة أخيراً على «اللجنة الوطنية للمقاطعة»، بعدما قطعت الأخيرة أشواطاً كبيرة في نشر ثقافة المقاطعة. وبزئبقيّة عالية، حرّكت الوزارة تلك السياسة التي كانت تتغنّى بها من مربع الثبات إلى التغيّر، وفقاً لقواعد اللعبة المصلحيّة والمرتبطة أساساً بالأزمة المالية التي نخرت عظام مؤسسات غزة جرّاء تنصّل «الوفاق» من دفع الرواتب والموازنات لموظفيها.
في مقابل ما سبق، خلت رفوف عدد من متاجر المواد الغذائية من البيض بصورة مفاجئة منذ أيام، وحلت مكانها لوحات تشير إلى توقف بيع البيض لوجود خلاف مع «الاقتصاد»، وكتب عليها «نأسف... لا يوجد بيض بسبب الخلاف بين وزارة الاقتصاد ومزارع إنتاج البيض على السعر».
ومن المضحك المبكي أنّ «حماس» التي لقّنت العدوّ دروساً في الميدان العسكري خلال الحرب الأخيرة، تدفع حكومتها الغزيين إلى شراء أكفانهم من العدوّ، وإفساح المجال واسعاً لإحكام الأخير قبضته الاقتصادية عليهم. وصحيح أن اتفاقية «باريس» الاقتصادية (1994) تفرض تبعيّة كاملة للاقتصاد الفلسطيني لنظيره الإسرائيلي، لكن الخطوة الأخيرة يستحيل إدراجها ضمن سياق الاتفاقية، لكون البدائل العربية والفلسطينية، وكذلك الغربية، متوافرة في السوق.
ويبدي منسق «اللجنة الوطنية للمقاطعة» في غزّة، عبد الرحمن أبو نحل، استغرابه ممّا سمّاه «تراجعاً خطيراً في الموقف الأخلاقي». ويقول لـ«الأخبار»: «بغضّ النظر عن النية أو الجهة التي أغرقت الأسواق الغزية، تحديداً بعصائر التبوزينا والسبرينج، فإنّ ثمّة حقيقة واحدة هي أن الغزيين يشربون دماءهم بأيديهم».
ويرى أبو نحل أن «غزّة تشارك في ذبح نفسها بعدما جنحت إلى استيراد المشروبات الغازية والعصائر والقهوة من العدوّ، عقب منع استمر خمس سنوات»، متخوّفاً من تشكيل هذه القضية انعطافة خطيرة في مسألة رفع الإيرادات التي يجنيها الاحتلال من تصدير منتجاته إلى السوق الفلسطينية، والمقدّرة بـ3 ملايين دولار سنوياً. ودحضاً للحجج التي ساقتها الوزارة، يلفت الرجل إلى أن «الحصار الجاثم على صدور الغزيين منذ ثماني سنوات أفرز ضعفاً عاماً في القدرة الإنتاجية لمصانع غزّة، والأزمة الاقتصادية ليست متجسّدة كما يصور بعضهم».
هذه الصفعة القاتلة على وجه نشطاء المقاطعة تأتي في وقت تقضّ فيه حملتهم مضاجع الإسرائيليين إثر تنامي الخسائر الاقتصادية، وكان من نتائجها إغلاق مصنع «صودا ستريم» الواقع في مستوطنة «معاليه أدوميم» في الضفّة المحتلة. والمضحك أكثر أن حكومة التوافق قالت، أمس، إنها بصدد اتخاذ إجراءات لإعادة صياغة العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل، نتيجة استمرار الأخيرة في حجز أموال الضرائب الفلسطينية.
ورغم أن حناجر الحمساويين تصدح دوماً بصوت مقاومة العدو، فإن الحادثة الأخيرة عكس التيار، وتؤكّد أن الحركة تتسلّق عمود «الضرورات» لتعلّق فوقه رايتها المالية المصلحيّة، تماماً كما حدث في التعاطي مع قضية محمد دحلان. وكيف لا يمكن الحكم بذلك إذا عرف أن شركة «يفئوره تبوري» (المنتجة للتبوزينا) هي شركةً ريادية في تعزيز سياسة الاستيطان اقتصادياً منذ النصف الأول من القرن المنصرم، وتزوّد جيش الاحتلال بمنتجاتها، وتدعم مركز «بيريس للسلام» الذي أسّسه شمعون بيريس، فضلاً عن توفيرها الدعم الميداني لجنود لواء «المظليين» الذي خرّج أرئيل شارون؟
وبينما تقدمت الأخبار الاقتصادية بلونها السياسي على هموم الغزيين، زاد من خوفهم إقدام مجهولين، أمس، على حرق مقر هيئة شؤون الأسرى في القطاع (شكلتها حكومة الوفاق) وسرقة بعض محتوياته. ومباشرة أعلنت وزارة الداخلية التابعة لـ«حماس» أنها فتحت تحقيقاً في الحادثة، وبذلك يصطف شبح الفلتان الأمني إلى جانب البضائع الإسرائيلية في عناوين الأخبار.