أصل إلى باريس، عاصمة النور، هكذا كان يلقبونها، ولكنني أنا الذي لا يعرف لغتها ولغة أهلها، أبدو غريباً ههنا. وصلتها كعادتي "لاجئاً"، أكره التعبير كثيراً، لكن في فرنسا ليس لي من توصيفٍ إلاه، إنني عائدٌ بالفطرة، لكنني في النهاية مجرد رقمٍ لدى سجلات الإحصاء في تلك الدولة الكبيرة، التي تضم مئات من اللاجئين يومياً من جميع بقاع الأرض، ياااه كما أصبحت بلاد العرب ضيقةً على الفلسطيني، وكم أصبح الغرب أخاً عزيزاً.
"جئتُ عبر ليبيا"، أسمع أحد الشبان السوريين يخاطب زميلاً لي. نحن نجلسُ منذ الرابعة صباحاً أمام المركز الفرنسي الذي يجب علينا أن نقدم أوراقنا له، عرفت فجأة أنه لم يكن علي أن أنتظر منذ تلك الساعة المبكرة من الليل أول الفجر، كان يمكنني أن أدفع بضع "يورهات" لأحد "سكان" المكان ههنا، ليحجز لي مكاناً، هكذا بكل بساطة تفهم أن "سلوك" العرب والشعوب الفقيرة هو نفسه، في فرنسا أو أميركا أو حتى على سطح القمر. ننقل تخلفنا معنا أينما حللنا، أيمكن تخيل فكرة العربي دون "تخلفه" وسني "الجهل" التي تركها خلفه في بلاده.
أسير في شوارع مدينةٍ جميلةٍ للغاية، بالتأكيد يجب أن أقول هذا، فالمدينة المضاءة بشكلٍ مستمر، المزدحمة بآلاف الوجوه التي تبدو بالكاد أوروبية لكثرة ما فيها من الأجانب وغير الفرنسيين البيض، تبدو فجأة كما لو أنها "نادٍ" دولي أكثر من كونها عاصمة لإحدى أكبر وأهم الدول الأوروبية وأشدها تأثيراً في مجتمعات العالم الثالث. آكل شاورما، تكلفني 3 يورو، أضحك حينما أدفع للرجل الذي لا يفهم مني شيئاً لكنه يأخذ النقود بلغة الإشارة: النقودُ لغةٌ عالمية، الجميع يفهم ماهيتها. لكن هذا لم يكن السبب لضحكي أبداً: أنا كنت أضحك لأنني ببساطة كنت أدفع نفس ثمن الشاورما (المحترمة طبعاً) في لبنان لدى كبابجي في الحمرا مثلاً. إذاً، باختصار، حتى باريس ليست أغلى من بيروت بكثير. أبتسم كثيراً للخاطرة، آكل بنهم. اعتاد الفلسطيني الأكل على عجلٍ والمشي على عجلٍ والكلام على عجل. قالي لي صديقٌ يدمن حشيشة الكيف مرةً إنّ على الفلسطيني أن يدخن الحشيشة مرة واحدةً في الشهر على الأقل: كي يهدأ. ضايقتني الفكرة كثيراً. كيف يهدأ الفلسطيني، فإذا ما فعل: مات. أصلاً يراهن الجميع على هدأة الفلسطيني وموته. هكذا بكل بساطة.
أصعد إلى المترو، هي أول مرةٍ أتعرف فيها إلى المترو، وأول ما تتعلمه في المترو بكل بساطةٍ هو أن تتجاوز القانون. كعربي، أنت تلقائياً تعتبر القانون وجد لإحكام سيطرة الأغنياء على الفقراء، الأقوياء على الضعفاء، فهذا هو تطبيقه في بلادنا، هكذا هي صورته. لذلك فإنّ من الطبيعي أنّ أول ما تتعلمه حين تعرفك إلى المترو أن تدخله "خلسةً"، أن لا تدفع نقوداً ثمن وسيلة النقل تلك. تقفز فوق الحاجز، أو تلتصق بشخصٍ دفع ثمن تذكرةً، كلها "حداقة" و"حربقة" تتعلمها بسرعةٍ بالغة. لا ينقص الفلسطيني حرفة التحايل واللعب على القانون، فسنوات الصراع مع كل أنظمة الكوكب جعلت الفلسطيني جزءاً أساسياً من كل أفكار التخريب وتجاوز القانون بديهياً.
في المترو، كما في كل شوارع المدينة، تكتشف فجأة أنك "كفلسطيني" محترم! ويقدّرك الناس لأنك ببساطة: فلسطيني. تلك فكرة شديدة الغرابة والمفاجأة، يتعامل الفرنسيون (وسكان فرنسا عموماً) العرب والأجانب على حد سواء مع فكرة أنك "فلسطيني" بدرجةٍ عالية من "الاحترام". ولأنك في النهاية لا بد من سيرك في الشوارع، فإنك ولا بد ستلتقي عرباً (جزائريين/مغاربة/شرقيين) كل هؤلاء سيكون مفتاحك بينهم هو: "السلام عليكم" ساعتها يخف "التوتر" اللحظي، ويحل مكانه نوعٌ من هدوء، لكن أن تدعّم ذلك الوجود بفكرة أنك فلسطيني، ساعتها ينقلب الوضع. يخرج محدثك فجأة كل "محبته" واحترامه، حتى الأناس العاديون في الشارع يفاجئونك بفكرة "حبهم" لفلسطين وتعاطفهم مع قضيتها. فعلاً تصاب بالدهشة، وتفكّر وتبدأ بالمقارنة بين حالك في بلاد "العرب" أوطاني، وحالك هنا. تعود لتفكر أكثر، في أن هؤلاء لربما لم يشاهدوا مخيماً من قبل، لكنك في نفس الوقت تتأكد من أنهم شاهدوا ما هو أسوأ من المخيم وظلوا على حبهم لفلسطين ولقضيتها وشعبها. باختصار، تبدو فكرة "قولك" أنك فلسطيني درعاً واقياً – مجرباً - كل مرة.
تقترب أكثر من "العاصمة" المنارة بشكلٍ دائم، يلفحك هواؤها البارد، البرد هنا أشد قسوةً مما تعرفه عادةً، لكنك تعرف أن باريس بكل بردها وقسوتها أخف قساوةً من أي عاصمةٍ عربية استضافتك أو ستفعل يوماً.
(من أسلوب كتيبة – بتصرف)