غزة | يبدو أن فلتاناً أمنياً حقيقياً بدأ يشق طريقه في قطاع غزة اخيراً، بعدما كانت سطوة الأجهزة الأمنية التابعة لـ«حماس» قد غيبته، إذ عرفت بأنها تضرب بيد من حديد كل من يخالفها، أو حتى من ينوي العبث بالمكان الذي تحكم فيه. الغريب أن الفلتان أخذ يتصاعد في وقت ترفض فيه حكومة الوفاق صرف رواتب موظفي غزة الذين يزيد عددهم على 45 ألفاً، كأنها رسالة عن تراجع الدور الأمني في القطاع إثر منع الرواتب عن الموظفين، وخاصة العسكريين منهم، لأكثر من ثمانية أشهر. والآن يضاف إلى ذلك، الخوف من طول أزمة رواتب الموظفين الذين يتبعون لحكومة رام الله السابقة.

حادثة تفجير جيب خاص بمدير الوحدة الإدارية والمالية في الحكومة السابقة، المقدم حلمي خلف، قبل أيام، أثارت الجدل في الوسط الغزي، على اعتبار أن مثل تلك الحوادث تثير قلقهم، وتعيد إلى الأذهان حالة الفلتان التي عاشها القطاع قبل سيطرة «حماس» عليه في حزيران 2007، بل إنهم يرون في الفوضى الأمنية خطرا داهما أكثر من أي حرب إسرائيلية، لأن مستقبلهم فيه سيكون مجهولاً تبعاً لعوامل القوة لدى الأطراف المتباينة.
أعلن رامي الحمدالله أن الأشهر المقبلة ستكون «عصيبة» مالياً

برغم حجم القلق الشعبي، فإن الأجهزة الأمنية في غزة، والمسؤولين في «حماس»، لم تظهر على وجوههم، أو تصريحاتهم، أي آثار قلق اتجاه الحادثة الأخيرة، وما قبلها، فضلاً عن أن الأمن في غزة لم يكشف، حتى الآن، فاعلي تلك الأحداث، على عكس حوادث أخرى كان الكشف فيها عن الجناة لا يستغرق أكثر من 72 ساعة.
وتفجير الجيب الخاص بخلف ليس الحادثة الأولى التي يشهدها القطاع بعد الحرب، إذ سجلت الهيئة المستقلة لحقوق المواطن في الشهر الماضي عدداً من الانتهاكات، وحالات وفاة وقعت في ظروف غامضة. ووثقت الهيئة بتاريخ التاسع من تشرين الثاني الماضي وفاة المواطن (ح. ب) متأثراً بإصابته بأعيرة نارية، ووفق المعلومات المتوافرة لديها، فإن المذكور أصيب أثناء تنظيفه رشاش «كلاشنيكوف» خاصا به في منزله.
وسجلت أيضا، في التاريخ نفسه، وفاة المواطن (أ. ع) من مدينة غزة متأثراً بإصابته بعيار ناري في الرأس، وأصيب المذكور أثناء وجوده قرب أحد المنتجعات على بحر غزة وهو في سيارة الجيب الخاصة به، إذ أطلق أفراد مجموعة مكونة من ثلاثة أشخاص النار بصورة عشوائية، ما أدى إلى إصابته في الرأس. يزيد على ذلك حادثتا تفجير المركز الفرنسي في غزة، وتقييدهما ضد مجهول، فيما كان يروج في الأوساط المحلية وقوف جماعات سلفية وراء الحوادث، علماً بأن داخلية غزة كانت تكتفي في كل حادثة بالشروع بفتح تحقيق.
على ما هو واضح، فإن الأمور بدأت تخرج عن سياقها الطبيعي، ويساند ذلك عدة إفادات بانتشار حواجز أمنية مكثفة على الطرقات في ساعات المساء حتى ساعات الفجر الأولى، يشارك فيها رجالات المباحث وحفظ النظام، إضافة إلى جهاز الأمن الداخلي.
وإذا أخذ بالاعتبار أن المؤسسة الحكومية القائمة، بمختلف وزاراتها في غزة، وتتهمها رام الله بأنها «حكومة ظل»، كانت فيما مضى راضية عن مستوى الفلتان المحدود، فإن المخاوف بدأت تتصاعد داخل المؤسسة الأمنية تحديداً، على ضوء التفجير الأخير المتعلق بجيب المقدم «خلف». وحتى وقت قصير، كانت المؤسسة الأمنية في غزة تظن أن لديها فائضاً في القوة، وهو ما يشعرها بالأمان نسبياً، لكن تكرار الحوادث ربما يصعب احتواؤها، بل يعيد المخاوف من سحب البساط من تحتها.
ويسيطر شبح الفلتان على الغزيين على اعتبار أنهم دفعوا فاتورة باهظة راح ضحيتها أكثر من 450 مواطنا قبل سنوات، فضلاً عن أن القطاع يمثل بيئة خصبة لنشوب حوادث الانتقام وتصفية النزاعات، على ضوء بقاء ملف المصالحة المجتمعية عالقاً.
ووفق ما يؤكد رئيس الوزراء في «التوافق»، رامي الحمدالله، خلال افتتاحه محطة لتحويل الكهرباء في جنين أمس، فإن الأشهر المقبلة عصيبة بالنسبة إلى الوضع المالي للسلطة، ما يعني أن أزمة اقتصادية جديدة وكبيرة ستضاف إلى غزة، الأمر الذي يفتح احتمالات اضطراب الأوضاع الانسانية، وفي المحصلة اتساع دائرة الجريمة وانتشار الفلتان.