القاهرة | عادت وزارة الأوقاف المصرية إلى بؤرة الأحداث مرة أخرى، بعدما صرح الوزير مختار جمعة، بأن أموال الأوقاف في البلاد تزيد كثيراً على 100 مليار جنيه (نحو 14 مليار دولار)، ويمكن تحويلها إلى ركيزة اقتصادية في حال «التعامل الصحيح» معها. كلام يسلط الضوء على نية لفعل جديد، إذ إنه في الظاهر استمرار لحالة الوهج التي تتمتع بها الوزارة والمؤسسات الدينية الرسمية في الجمهورية منذ عزل الرئيس محمد مرسي، في محاولة واضحة لتقديم بديل ديني لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة، في ما يمكن تسميته سياسة «تجفيف المنابع» التي تتبعها الدولة مع الجماعة على مدار أكثر من عام، لكن ماذا يريد جمعة بتصريحه؟
في البداية، ليس هناك ملف يكتنفه الغموض وغياب المعلومات والأرقام والتقديرات «الدقيقة»، مثل ملف الأوقاف المصرية، التي تديرها رسمياً «هيئة الأوقاف» التابعة للوزارة، إذ يحدد القانون تشكيل مجلس إدارتها برئاسة مفتي الديار المصرية، وعضوية ممثلين من كل من وزارات الأوقاف والمالية والإسكان والتضامن الاجتماعي والحكم المحلي، وأيضاً قسم الفتوى والتشريع في مجلس الدولة.
وواقعياً، قد تكون الأوقاف أغنى الوزارات على الإطلاق، فهي تفوق بمقدراتها وزارة البترول. وما أعلنه الوزير مختار هو نحو 100 مليار جنيه، تتضمن أراضي زراعية واستثمارية، وعمارات ومساكن، وأيضاً شركات مقاولات ومصانع سجاد، فضلاً عن عدد كبير من الأسهم في عدد من مصانع الأسمنت والكيماويات والبنوك وشركات السكر والمستشفيات الخيرية... وغيرها.
ورغم أن الأوقاف تمتلك العديد من العمارات السكنية في أرقى أماكن القاهرة ومراكز المحافظات، فإن القيمة الإيجارية للوحدة الواحدة منها تصل في المتوسط إلى 5 جنيهات شهرياً (أقل من دولار واحد)! وذلك نتيجة عقود الإيجار القديمة التي تمنع المؤجرين من رفع القيمة، بجانب استمرار العقد مدى الحياة وامتداده للورثة وورثة الورثة أحياناً، وكل هذا جزء بسيط من مظاهر ضعف وسوء إدارة «هيئة الأوقاف المصرية»، لما تمتلكه الوزارة.
قد تكون الأوقاف أغنى الوزارات في مصر ورقم 100 مليار جنيه أقل مما يتوقع

بشأن الأراضي التابعة للأوقاف، أيضاً يتجلى غياب الرقابة والاهتمام بها، ما يمهد يومياً لتكرار حالات التعدي على أراضي الوزارة في المحافظات المختلفة، ثم تأتي المحاولات لاسترداد تلك الأراضي، ومرة تفلح وأخرى تخيب، في ظل هجمة «ممثلي دوامات البيروقراطية المصرية»، وفق القناعة السائدة بأن أصول الأوقاف لا صاحب لها.
تاريخياً، يرجع إنشاء هيئة الوقف المصري إلى عهد محمد علي باشا، الذي أنشأ وحدد اختصاصاتها بموجب لائحة رسمية (ديوان عمومي الأوقاف)، ثم تطورت قوانينها واختصاصاتها مع تطورات الجهاز الإداري للدولة، إلى أن جاء صدور قرار الرئيس الراحل، أنور السادات، عام 1971 بإنشاء هيئة الأوقاف المصرية ومقرها القاهرة. ومن الاختصاصات المحددة للهيئة «إدارة الأراضي الزراعية الموقوفة على جهات البر العام والبر الخاص والأوقاف الخيرية، وأموال البدل والأحكار، وسندات الإصلاح الزراعي، وكذلك إدارة أموال الأوقاف واستثمارها وتنميتها»، وذلك مقابل أن تتقاضى الهيئة «ككيان منفصل» 15% من إجمالي الإيرادات المحصلة، فيما تؤول باقي حصيلة الإيراد إلى الدولة ممثلة في وزارة الأوقاف بعد تجنيب 10% من الإيرادات كـ«احتياطي» لاستثماره في تنمية كل وقف. وأيضاً، أعطي الحق لمجلس إدارة الهيئة في التصرف في الاحتياطي بعد موافقة الوزير، فيما قد تزيد النسبة التي تتقاضاها وتختلف، طبقاً لما يحدده القانون في حالات كثيرة.
الباحث المختص في الشؤون الإسلامية، ماهر فرغلي، يوضح أن تصريحات الوزير هي «للاستهلاك المحلي والشو الإعلامي فقط»، لأنه «أحد أبرز المرشحين للخروج من الوزارة، وكل كلامه يأتي قبيل التلميع الإعلامي أمام القيادة السياسية». ويؤكد فرغلي أن «جمعة أخفق في كل مهماته منذ توليه الوزارة، فهو أعلن منع الخطباء غير المعتمدين عبر الأوقاف من الخطابة، ولا يزال حتى الآن خطباء الجماعة الإسلامية يخطبون في مساجدهم المعروفة في سوهاج وأسيوط والمنيا، كذلك فإنه يهاجم قيادات السلفيين، ثم يجتمع معهم بعدها».
كذلك رأى الباحث أن 100 مليار جنيه «هو رقم أقل من القيمة الحقيقية لحجم ما تملكه الأوقاف من أصول»، متسائلاً: «ما الذي يمنع الوزير من دعم الاقتصاد المصري، غير أنه لا يمتلك الإرادة ولا القدرة، لأن أخطبوط الفساد في الوزارة تفحش من عشرات السنين حتى صارت الأوقاف على رأس قائمة الوزارات الفاسدة في مصر؟».
رؤية فرغلي تتوافق مع ما أكده أحد المسؤولين في الأوقاف، رافضاً ذكر اسمه، إذ قال إن الوزارة لم تخطرهم بأي خطط أو مشاريع تطوير أو لوائح عمل جديدة، «فالعمل يسري كما هو معتاد، دون أي تغيير».
من هنا، يبدو أن الهدف الرئيسي لحديث وزير الأوقاف، وفق مجريات الأحداث على الساحة المصرية، هو استغلال أموال الوزارة لضرب جماعة الإخوان والمؤيدين لها في حواضنهم الاجتماعية الواسعة، وهو ما يتسق مع ما قررته لجنة حصر أموال الإخوان بالتحفظ على جميع ممتلكات الجمعية الطبية الإسلامية، والجمعية الطبية في رابعة العدوية، وعزل مجالس إداراتهما والإدارات الطبية لهما، ثم تشكيل مجلس إدارة جديد لجمعية رابعة برئاسة المفتي السابق، علي جمعة.
وتمتلك الجمعيتان اللتان جرى الحجز عليهما لمصلحة الدولة نحو 40 فرعاً تقدم الخدمات الطبية بأسعار رمزية، ولهما أصول تقدر بمئات الملايين، في سبع محافظات، علماً بأن الإخوان اعتمدت الوقت على تقديم الخدمات والمعونات بأسعار رمزية، إذ كانت تشكل المورد الأساسي لجماهير الجماعة في الانتخابات والاستحقاقات السياسية.