غزة | نحو بضعة أيام مضت تسارعت فيها الاتهامات والشكوك في قطاع غزة، وخاصة بعد التفجير الذي استهدف صرافات آلية تابعة لبنك فلسطين، الأكثر انتشاراً والمعتمد لرواتب السلطة الفلسطينية. أصابع الاتهام أشارت إلى موظفين من حكومة «حماس» السابقة، وخاصة أنهم لا يتقاضون بصورة منتظمة رواتبهم من حكومة التوافق، إذ نشروا بياناً موقّعاً باسمهم قبل يوم من التفجير، يحذرون فيه أي موظف تابع لـ«رام الله» من تقاضي راتبه قبل تسلّمهم رواتبهم، مع أن رواتب السلطة، عن الشهر الماضي، لم تصرف بعد، بسبب العقوبات الإسرائيلية، ما يجعلها «ضربة غير موفقة»، إن ثبت أن وراءها المتضررين من انقطاع الرواتب.وكما استهين ببيان التهديد الأول، ثم وقعت الانفجارات، نشرت رسائل تهديد وصلت إلى مديري البنوك وموظفيها في غزة، تحذرهم من صرف رواتب حكومة الوفاق. لكن وزير سلطة النقد في حكومة الوفاق، جهاد الوزير، نفى لـ«الأخبار» عجز الحكومة عن حماية مؤسساتها في غزة، مؤكداً أن التهديد بالقتل والاعتقال للعاملين في الجهاز المصرفي غير صحيحة. وشدد الوزير على أن فروع البنوك ستستمر بالعمل، رغم العقبات التي تواجههم.
يوم أمس، عادت الأزمة لتتفجر من جديد، إذ اقتحم مئات من موظفي غزة اجتماع مجلس الوزراء أثناء عقد جلسة طارئة للحكومة داخله، وقطعوا الاجتماع مطالبين بصرف رواتبهم. وهي نتيجة طبيعية لغليان الوضع بعد بيان «التوافق»، قبل أيام، الذي أكد أنه قد يكون مصير هؤلاء الموظفين إنهاء عملهم وصرف مكافأة نهاية خدمة لهم، أو إقامة مشاريع صغيرة عبر الدول المانحة (راجع العدد ٢٤٨٧ في ٨ كانون الثاني).
الضائقة المالية الآن هي عنوان المواجهة بين «التوافق»، و«حماس» التي تتهم «فتح» بالتهرب من استحقاقات «اتفاق الشاطئ». كذلك رأت القيادة الحمساوية أن الحكومة «كاذبة ومماطلة»، فيما الأخيرة تكرر أنها لا تمتلك أرضية خصبة لبدء العمل ومباشرة أعمالها بسبب قضايا عالقة مثل المعابر وازدواجية الأوامر. ظلت «حماس» تصر على أن رئيس السلطة، محمود عباس، هو من يملك القرار، لكنه يعرقل الحل. وباعتبارها المسيطر على غزة، فإنها استنكرت تفجير الصرافات الآلية، في وقت أكدت فيه «فتح» وباقي الفصائل أن هذا لا يعفيها من الدور المنوط بها في ظل بروز فلتان أمني جديد. لذلك حاولت الحركة الظهور بمظهر «المنقذ»، ودعت إلى اجتماع عاجل للفصائل عدا «فتح» التي تغيبت احتجاجاً على سلسلة اعتداءات بحق كوادرها.
لكن، هل «حماس»، التي تسيطر على القطاع فعلياً، عبر الأمن ووكلاء الوزارات، ولا تسمح بوجود منافس لها، معنية بمزيد من الفلتان الذي يحسب عليها لكونها في الواجهة؟ قد يبدو أن الفلتان لم يصل إلى مرحلة ترى فيه الحركة مدعاة للقلق، إذ إنه مضبوط وموجه إلى هدف واحد، لكنها، أمس، عملت على تهدئة الوضع بصرف دفعة 1000 شيكل (250 دولاراً) لجميع الموظفين المدنيين والعسكريين.
رغم ذلك، يؤكد القيادي في حركة «الجهاد الإسلامي»، خالد البطش، أن استمرار المصالحة لا يحتمل مثل الأزمات الجارية، إذ «لدينا مخاوف من انهيار أمني منظم وتدريجي»، داعياً إلى حل ملف الموظفين الشائك «الذي زعزع أمن غزة»، لكنه يتخوف من أن تحقيق مبدأ الشراكة الوطنية لن يتحقق «ما دامت التناقضات والاتهامات هي الحلقة الأقوى». ولا يتوقع البطش، الذي خرج بحديث مطول بعد اجتماع الفصائل، أن مشكلة غزة ستحل إن أمسكت السلطة الفلسطينية إدارة المعابر وحدها، لافتاً إلى ضرورة أن تتنازل «حماس»، فهذا «ليس استسلاماً، بل له علاقة بمصير قرابة مليوني فلسطيني يعيشون تحت حصار مطبق».
الغزيون يسألون اليوم عن مصير المصالحة في ظل غياب استحقاقات الحرب الأخيرة، إذ يتخوفون من عودة المواجهة بين الحركتين رغم الاتفاق الذي كان يقضي بأن يخرج القطاع بصورة تدريجية من سيطرة «حماس» انتقالاً إلى قبضة السلطة، ثم على الدول المانحة أن تغدق مساعداتها على غزة ويفك الحصار بعد دخوله العام التاسع.
حالياً، لا يبدو أن أياً من طرفي النزاع يريد التنازل، وهو واقع أكدته التفجيرات التي استهدفت منازل قيادات من «فتح» قبل شهرين، ثم ما جرى بحق البنوك. كذلك يظهر أن رام الله تراهن على أن أزمة غزة المالية والاقتصادية، التي تفرضها إسرائيل ومصر معاً، ستقود إلى تسليم «حماس» للأمر الواقع. ما يؤكد ذلك استمرار التوقف في إعمار غزة رغم أربعة أشهر على انتهاء الحرب، إذ تربط «التوافق» بدء الإعمار الفعلي بتسلمها زمام المسؤولية كاملة.
أما ما يغيب عن «حماس»، أن الضغط في غزة لا يؤلم إلا غزة نفسها، وليس رام الله، ومن هنا يمكن فهم تشديد السلطة اعتقالاتها واستدعاءاتها لكوادر الأولى تخوفاً من نقل «الفوضى» إلى الضفة المحتلة، مع أن الحركة تؤكد أن الاعتقالات جزء من التنسيق الأمني مع الاحتلال.
ويرى متابعون للشأن الداخلي أن الضغط الحمساوي على السلطة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لن يثمر كثيراً، لأن «حماس» تواجه شريكاً قوياً من الناحية الفعلية، وهو محاط بدعم إقليمي ودولي رغم أزمته الحالية، ولا يزال يمتلك الشرعية الوحيدة للحديث مع العالم، بل يذهبون إلى أنه في حال التصعيد أكثر، لدى السلطة القدرة على إعلان غزة إقليماً متمرداً، وأن «الطلاق» مع «التوافق»، بهذه الطريقة قد يرتد سلبياً. كذلك لا يرون أن «حماس» تستطيع الضغط كثيراً على محمود عباس، بورقة القيادي المفصول من «فتح»، محمد دحلان، لأن لدى الأخير ملاحظاته وهواجسه من الحركة أيضاً. من هنا، فإن الاستنزاف الذي لحق بـ«حماس» سبّب عجزها عن تحقيق آمال الغزيين والوصول إلى الحد الأدنى من الحقوق، وستظل هي الخاسرة الوحيدة من تأزم الوضع في القطاع، ولن تجني إلا مزيداً من الحصار وتأخير الإعمار.