تأتي الانتخابات وتأتي معها وفود المرشحين الطامحين إلى «مرقد عنزة» في المجلس النيابي اللبناني، وفي أغلب الأحيان، يُختار المرشّحون بناءً على اعتبارات حزبية في المقام الأول، وأن يكون المرشح ملتزماً بمواقف زعيمه مهما كانت، تليها الاعتبارات العائلية والوراثة والبيوتات السياسية في المقام الثاني، وثم قدرة المرشح المالية على دعم اللائحة والخدمات التي يقدمها في منطقته.ليس في ذلك تجريح أو تشكيك بقدرات أي من المرشحين أو مزاياهم، إلا أن هناك تجربة رائدة في لبنان، تتجاوز هذه الاعتبارات، رسختها الأحزاب اللبنانية ـــــ الأرمنية، فنرى من بين المرشحين اللبنانيين الأرمن اليوم، صناعيين اثنين مشهوداً لنجاحهما في الصناعة... وقد تكون نسبة الصناعيين المرشحين من الطوائف الأرمنية أعلى نسبة بين كل الطوائف اللبنانية.
لقد برع اللبنانيون الأرمن منذ زمن بعيد في مجالات الصناعة، حتى أصبح يضرب المثل بهم دلالة على جودة العمل وإتقانه، وباتوا يمثلون نسبة كبيرة من الصناعيين. فالللبنانيون الأرمن يمارسون إيمانهم الراسخ بأهمية الإنتاج في كل أوجه الحياة، حتى حينما يتعلق الأمر بالانتخابات، لقد علّمونا الكثير عن الإنتاج والإبداع والعمل الجاد والمستمر بدون تأفف، كما إتقان العمل إلى أعلى درجات الإتقان... فهم أدركوا منذ زمن بعيد أهمية الصناعة، وربطوها بلقمة العيش وتأمين حياة كريمة لهم ولعائلاتهم، وأغنوا المجتمع اللبناني بثقافة الإنتاج، بينما كان الآخرون يتباهون بميزة الضيافة اللبنانية والخدمات اللبنانية، ضاربين عرض الحائط بكل ما يتعلق بالإنتاج.
وقد أثمر هذا الالتزام والعمل الدؤوب نتائج مميزة حققها الصناعيون الأرمن في لبنان، من عالم المجوهرات، إلى البلاستيك، والأدوات الكهربائية، والمشروبات والألبسة كما الصناعات الميكانيكية الدقيقة وغيرها الكثير... وقد أبدوا إصراراً على الاستمرار في الإنتاج والتصنيع رغم كل الظروف التي مر بها لبنان ورغم العداء للصناعة.
وبالعودة إلى الانتخابات، قد تكون الخطوة التي قام بها اللبنانيون الأرمن عبر ترشيح مرشحين صناعيين إلى المجلس النيابي من الخطوات المهمة التي نؤيدها، كما نؤيد أي مرشح يأتي من خلفية صناعية، لأن تغيير العقلية السائدة في البلد وخلق استراتيجيات اقتصادية يحفزان الصناعة، ويجب أن ترتكز على مجلس نيابي يضمّ نواياً يدركون أهمية الصناعة والإنتاج اللبناني، ومن هو غير الصناعي يدرك جيداً شجون الصناعيين وهمومهم؟ ويعرف ما تطلبه السلعة من إبداع وتعب وجهد لتُخلق؟ ويعرف جيداً مدى الاستهتار الحكومي والسياسي بهذا القطاع الذي نلمس يوماً بعد يوم أنه بات عبئاً على الحكومات بدل أن يكون هو الرافعة التي ترفع الإنتاج الوطني؟
إن الصناعي يدرك جيداً كيفية إدارة الأمور، واعتماد الطرق الأفضل والأسرع، لأنه في صراع دائم مع المنافسة والأكلاف والتطور، ويدرك جيداً كيف تتطور الأمور، لأن السلعة إذا لم تتطور وتتحسن يومياً تسقط في فخ النسيان والفشل، ما يجعل الصناعي على درجة عالية من الاطلاع على كل التقنيات التي تتيح له تطوير ذاته.
وإن الصناعي يعرف أهمية الإدارة والتعامل بشفافية، لأنه يدرك جيداً أن عملية الإنتاج هي عملية مترابطة ومنظمة، وعند حدوث أي خلل في أي حلقة، تتأثر سلسلة الإنتاج بكاملها.
كل هذه الصفات هي صفات يجب أن تتوافر في شخصية الرجل السياسي، لأن بناء الدولة هي عملية إنتاجية بامتياز، وربما من أسباب فشلنا حتى اليوم في بناء دولة قوية وناجحة هو غياب العقلية العملية التي تعتبر أن أي نجاح هو مرتبط بسلسلة متكاملة، متواصلة الحلقات.
ويبقى الأهم هو حاجتنا في لبنان لإيصال الصوت الصناعي إلى داخل المجلس النيابي، ما يمنع الاستهتار الحاصل بمصالح الصناعيين اليوم، ففي الوقت التي تبني فيها كل الدول سياستها على أساس حماية الصناعة، نمارس نحن في لبنان سياسة مغايرة عنوانها تمرير كل شيء على حساب الصناعة والصناعيين.
ومن المهم أيضاً وجود صوت للصناعة اللبنانية داخل الحكومات اللبنانية، ونستشهد هنا بأداء الوزير الصناعي ألان طابوريان الذي قارب مشكلة الكهرباء من منظار صناعي بحت بعيد عن المصالح الضيقة، ومن خلال نظرة صناعية علمية systematic أثمرت خطة واقعية ومنطقية تمكننا من إنتاج الكهرباء خلافاً للخطط البراقة التي لا تستند إلى الواقع والتي تعتبر بعيدة كل البعد عن إمكانية التنفيذ، وتجربة الوزير طابوريان ذكرتنا بالتجربة الرائدة للوزير الراحل جورج افرام، الذي أوجد خططاً عملية وفاعلة، وكما الوزير افرام يواجه الوزير طابوريان حملة شرسة لإقفال الطريق أمام الحلول الصناعية، لأنها حلول شفافة لا تسمح بالبيروقراطية الإدارية والاستنساب.
لكل ذلك ندعو لتأييد المرشحين الصناعيين مهما كانت انتماءاتهم، وذلك بهدف إدخال دم جديد وعقلية جديدة إلى المجلس النيابي والحكومة اللبنانية، لأنه في ظل كل التجاذبات السياسية يجب أن يبقى الاقتصاد هو الهم الوحيد الذي يجب أن نتطلع إليه في المرحلة المقبلة، لأنه لا سيادة ولا حرية من دون اقتصاد قوي قادر على المنافسة.
ولن نستطيع بناء اقتصاد قوي بمنأى عن الصناعة والإنتاج وتغيير العقليات السائدة والممارسات القديمة التي كبلت الاقتصاد اللبناني وأفقدته تنافسيته.
ويبقى الأهم أننا لن نستطيع تغيير العقلية القديمة وإعطاء حيز أهم للصناعة اللبنانية في المرحلة المقبلة، ما لم نتمكن من إيصال صناعيين يتمتعون بحس صناعي إلى المجلس النيابي، كما تسليم الوزارات الصناعية للعقول الصناعية وعلى رأسها وزارة الصناعة وبالطبع وزارة الطاقة.
رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين