تلتهب الأرض الليبية بالمعارك، القتال ترتفع وتيرته في الأسابيع الأخيرة بين «معركة الكرامة» و«فجر ليبيا». جيش اللواء خليفة حفتر على مدى الأشهر الماضية، حتى اليوم، لا همّ له سوى السيطرة التامة على بنغازي وإنهاء وجود «أنصار الشريعة» وحلفائها من الإسلاميين في ما تبقى من أحيائها. تأمين بنغازي، عاصمة الشرق الليبي، سيسمح بنقل مجلس النواب إليها من طبرق وفقاً للدستور. ينتظر حفتر هذه اللحظة بفارغ الصبر، الانتصار في هذه الحرب سيثبّت الاعتراف الدولي بحكومة عبدالله الثني والبرلمان، وسيضاعف من تدفق السلاح الذي يشتهيه إلى جيشه لإكمال معاركه المستقبلية.
دوائر الاقتتال تبدو هذه المرة أكثر وضوحاً من الجولات السابقة، منابع النفط الممتدة ما بين بنغازي وسرت أو ما يعرف بـ«الهلال النفطي»، تحولت إلى ساحة حرب شرسة. حفتر أرسل تعزيزات عسكرية إلى هذه المناطق الممتدة على مساحة تقدر بـ500 كيلومتر على الساحل الليبي، ووفّر الغطاء الجوي بالمقاتلات التي أصلحها والمروحيات التي قدمها إليه «الحليف» المصري. وفعلاً تمكنت قواته من إفشال مخطط «فجر ليبيا» بالزحف إلى هذه المناطق، لتأخذ المعارك شكل الكر والفر.
وكأن الماضي القريب يعيد نفسه، زمن المعارك بين الثائرين وكتائب القذافي. فأسماء كرأس لانوف ومرفأ السدرة وسرت تعود لتلمع من جديد. و«الكرامة» و«فجر ليبيا» يعودان لإحياء ذكرى الدم على طريقتهما؛ فالجانبان وضعا نصب أعينهما إحكام السيطرة على هذه المناطق المشبعة بالنفط العالي الجودة، حتى لو كلف الأمر تهجير وقتل أهالي هذا الساحل، وحتى لو كانت النتيجة خسارة ليبيا لخزانات النفط وإحراقها، وحتى لو تسبب القتال أيضاً في انخفاض إنتاج النفط من تسعمئة ألف برميل يومياً إلى مئتي ألف وربما أقل.
السيطرة على
بنغازي تعني تثبيت الاعتراف الدولي بحكومة «الثني»

شراسة المعارك والدمار العبثي الذي يحيط بالمنشآت النفطية لا يوحيان بأن الغاية هي السيطرة على مصدر الرزق الوحيد لهذا البلد بما يعود بالدولارات على أحد الفريقين.
مصادر خاصة تؤكد لـ«الأخبار» أن البريطانيين والأميركيين بعثوا عبر دبلوماسييهم رسائل صريحة إلى الفريقين... «من يمسك بمنابع النفط ومرافئ تصديره سيمنح الغطاء الدولي لحكم ليبيا». نقاط الاشتباك على الخرائط تتماهى مع ما تقوله المصادر. الغرب لا يريد الدخول المباشر في الصراع القبلي الحزبي المعقد في ليبيا، فهو يدير الصراع من بعيد، يدعم من يقدم له الطاعة أكثر، ويدوّر الزوايا بما يناسبه. يبدو أن عملية توزيع حصص النفط الليبية قد انطلقت بين اللاعبين الكبار.
أين فرنسا من هذه المعادلة؟ أليست هي الأجدر بالحصة المحترمة من الطاقة الليبية؟ ألم يكن رئيسها السابق نيكولا ساركوزي قائد الحلف الأطلسي في هذه المعركة؟ في الأشهر الماضية اشتعلت المعارك ما بين قبيلة «التبو» التي تسكن الشريط الحدودي الليبي التشادي، و«الطوارق» أو «أمازيغ الصحراء» المنتشرين في الجنوب الليبي والنيجر والجزائر ومالي. لم يفهم أسباب هذا الخلاف...! فما بين الطرفين تحالف عمره أكثر من 100 عام ويعرف باللغة الأمازيغية بـ«أميدي أميدي» أي «صديق صديق». ترفع فرنسا من مستوى تصريحاتها حول وجود عناصر إرهابية في الجنوب الليبي. ترسل تعزيزات إلى النيجر وتشاد، تعيد تجهيز قاعدة عسكرية قديمة اسمها «مداما» على بعد 100 كيلومتر عن الحدود الليبية، وتدفع الرئيس التشادي إلى إرسال مجموعات إلى ليبيا للقتال إلى جانب «التبو» ضد «الطوارق». مشهد الفوضى والسلاح والقتال والمتشددين يكتمل. يطل وزير الدفاع الفرنسي جون إيف لودريان من النيجر، وقبلها تشاد، ويدعو بشكل صريح إلى تحرك دولي لمواجهة الإرهاب في ليبيا.
السؤال، ماذا يوجد في الجنوب الليبي تريده فرنسا لنفسها فقط؟
منطقة أوباري، موطن «الطوارق» الأساسي وأرض أجدادهم، تعوم على بحر من الذهب الأسود، هناك آبار من النفط حفرت وأعاد نظام معمر القذافي إغلاقها بذريعة حفظها للأجيال القادمة، وهناك اكتشافات نفطية هائلة لا تزال «بكراً» تنتظر من يريها النور.
جبال تيبستي، أرض قبائل «التبو» الموجودة على الشريط الحدودي ما بين ليبيا وتشاد، تحتوي على آلاف الأطنان من الذهب واليورانيوم.
لعل في الجنوب الليبي حصة فرنسا من الكعكة الليبية الدسمة. باريس إذا ما قررت دخول جنوبي ليبيا تكون قد ضربت أكثر من عصفور بحجر واحد؛ ستصبح مصادر الطاقة في الجنوب الليبي في قبضتها، ستعيد إحياء الصراع الليبي التشادي القديم حول الحدود المعروف بـ«قطاع أوزو»، بما يضمن لها الإمساك بهذا الملف بين البلدين. والأهم من ذلك ستصير حكماً اللاعب الأساسي في دول جنوب الصحراء الأفريقية بعد تراجع نفوذها في القارة السمراء لمصلحة بلاد العم سام والمارد الصيني.
تبقى إيطاليا، في زمن النظام الليبي وأيام العلاقة الطيبة بين رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني ومعمر القذافي كانت شركة «إيني» النفطية العملاقة تدير أكثر من 35 في المئة من إنتاج النفط الليبي، وتحصل على نحو 32 في المئة من احتياجاتها النفطية. هل ستقبل إيطاليا بسهوله الخروج من منطقة نفوذها التاريخي؟ خصوصاً أن برلسكوني اضطر مكرهاً إلى خيانة صديقه الصدوق القذافي والمضي مع «الأطلسي» في إنهاء ليبيا القذافي؟
المعارك ستشتد مع تقدم الأيام، والقتال لم يبلغ ذروته بعد، والعديد من الأهالي سيذرفون الدموع ويوارون أبناءهم الشباب، وقود هذه الحرب، في الثرى. الحوار الذي دعا إليه المبعوث الأممي برناردينو ليون بين المتحاربين «منتهي الصلاحية» قبل بدئه. ربما يكون له معنى عند انتصار أحد الفريقين. عندها يوقّع بيان المنتصر في معركة السيطرة على ليبيا.
في كل الأحوال، العقلية الليبية لا تزال بعيدة عن منطق الحوار والنقاش. أحد القادة السياسيين البارزين في ليبيا قال ذات مرة في إحدى الجلسات معه: في داخل كل ليبي «قذافي صغير» علينا التخلص منه قبل أن نفكر في بناء ليبيا... ثمة في كلامه ما يلخص الوضعية الليبية الحالية.