فادي عبّود يجري تأليف الحكومة اللبنانية حالياً بزخم كبير وبتعاون دولي ــــ إقليمي ــــ كوني، وتتنازع الأطراف كلها لضمان حصتها التمثيلية المقدسة. وكما تعودنا في كل استحقاق سياسي أو انتخابي، تغيب الشؤون الاقتصادية عن الواجهة، ويغيب معها أي تصور واضح لمواجهة الدين العام المتنامي لانتشال لبنان من مصاف الدول المتعثرة اقتصادياً.
لم نعد نشتكي من غياب النقاش الجدي بشأن الأمور الاقتصادية من جانب الطبقة السياسية في لبنان، فقد تحوّل هذا الموضوع إلى بروتوكول لبناني بامتياز، ولكن الخطير أن يأتي هذا الغياب في خضم تحولات دولية وإقليمية، حيث تتصارع كل الدول للحفاظ على مصالحها ولاستباط نظام عالمي جديد بعد التعثر الذي شهده العالم بعد الأزمة الاقتصادية الأخيرة. واللافت أن الخطوات الاستباقية التي طرحتها حكومة تصريف الأعمال في أيار 2009 لمواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية، غاب عنها أي ذكر لموضوع حماية الصناعة الوطنية، وكأن موضوع حماية الصناعة بات سبباً للحياء والخجل حتى أصبحنا نخشى التفوّه به.
ففي 24 حزيران 2009 رفعت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعوى على الصين أمام منظمة التجارة العالمية بشأن الفحم الحجري وغيرها من المواد الخام. فقد وضعت الصين ما يسمى بضريبة تصدير على صادرات المواد الخام، مما سيؤدي بالتأكيد إلى إلحاق الضرر بالصناعات خارج الصين، ويعطي أفضلية تنافسية للصناعة الصينية عبر رفع كلفة إنتاج الصناعات في الدول الأخرى. وقد تحركت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للحفاظ على مصالح صناعاتها في إشارة واضحة إلى أن الدول الغربية لن تتساهل بعد اليوم مع أي إجراءات تعطي أفضلية لصناعة على حساب أخرى.
استمرار سياسة الاستدانة من دون أي أفق هو انتحار
واللافت أن الإجراءات التي تقوم بها الصين مماثلة إلى درجة المطابقة مع الإجراءات التي دأبت أغلبية الدول العربية على ممارستها، بالرغم من أنها عضو في منطقة التجارة الحرة العربية GAFTA التي تتبع أحكام منظمة التجارة العالمية wto. فدعم أكلاف الطاقة الذي تقوم به معظم الدول العربية لا يختلف عما تقوم به الصين، فضلاً عن توفير المواد الخام المنتجة محلياً للمصانع بسعر أرخص من سعر التصدير وغيرها الكثير من الممارسات. ولا بد من التوضيح هنا أن هناك نظرية متداولة في الشرق الأوسط أن الثروات الطبيعية قد تكون من الميزات لتلك الدول، نحن لا نريد مقارعة هذه الدول، فإذا كانت لا تنوي التوقف عن الدعم، فالجواب بسيط وهو ما تسمح به منظمة التجارة العالمية ويسمى بالرسم التكافئي الذي يستطيع لبنان أن يلجأ إليه للحفاظ على تنافسيته.
فالولايات المتحدة، بمجرد أن شعرت بوجود ممارسات تضر بصناعاتها، صعّدت المواجهة مع الصين وطالبت بحقوقها أمام منظمة التجارة العالمية، أما الظلم الذي تتعرض له القطاعات الإنتاجية، وتحديداً الصناعية في لبنان، فلم يدفع أي مسؤول لبناني إلى تقديم أي شكوى، أو حتى تلميح، أمام مسؤول عربي أو فرض رسوم تكافئية، وهي إجراءات تسمح بها منظمة التجارة العالمية.. فلا بد من السؤال: ألا يعتبر من ينادي بسيادة لبنان، أن إقفال مصنع بسبب الإغراق الذي يتعرض له جراء الإنتاج العربي المدعوم هو انتقاص للسيادة اللبنانية؟
إن العالم الغربي يحاول في هذه الفترة الحرجة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية القيام بمواجهة جدية للحمائية التي دأبت الدول على ممارستها في الأشهر الأخيرة، فعودة الحمائية تعتبر موتاً معلناً للنظام الرأسمالي الحر الذي روّجت له الدول الغربية ودافعت عنه واعتمدته، وهي لن تسمح بأي شكل من الأشكال بسقوطه، ولكن ذلك لا يعني أن هذه الدول لن تسعى إلى تحسين النظام لجعله أكثر عدالة في ظل مطالبات عديدة لإصلاحه بعد الشوائب التي اعترته في المرحلة السابقة.
هل نستطيع اليوم أن نستمر في هذا التجاهل المطلق لعدم عدالة النظام التجاري الذي نحن شركاء فيه. لا أعتقد ذلك، لأن تاريخ التجارة الحرة ما قبل الدعوى المقدمة من الولايات المتحدة ضد الصين في حزيران يختلف عما سيأتي بعده، وإن مفاعيل هذه الدعوى وتردداتها ستنعكس على كل الشركاء التجاريين في العالم العربي. وعلى المسؤولين اللبنانيين أن يدركوا أن الفرص متاحة للبنان الآن لتحصيل بعض حقوقه وحقوق قطاعاته الإنتاجية التي فقدها خلال سنوات من الممارسة التجارية غير العادلة وأدت إلى إقفال العديد من المصانع اللبنانية العريقة. والأهم، على الدول العربية أن تدرك أنها باتت بحاجة إلى مراجعة استراتيجياتها التجارية، لأن المحافظة على الممارسات القديمة سيجعلها خارج النظام التجاري الجديد أو على الأقل سيجعلها عرضة لفرض رسوم تكافئية على صادراتها. وقد بدأت بعض الجهات العربية تعي أهمية ذلك، إذ صدرت عن مؤتمر تنافسية الصادرات العربية الذي نظمه الاتحاد العام لغرف التجارة للبلاد العربية في مبنى عدنان القصار في بيروت توصيات في هذا السياق، فقد حذر المؤتمر من تصاعد الحماية التجارية من جانب الدول الاقتصادية الكبرى، وأوصى بما يلي: دعوة الدول العربية إلى مراجعة استراتيجياتها التجارية، إطلاق ورشة عمل لخلق منطقة نموذجية وعادلة للتجارة العربية البينية، وتفعيل نظام فعال لقواعد عربية موحدة للمنافسة لتحقيق التكافؤ والعدالة في مجالي التجارة والاستثمارات العربية البينية، بهدف إزالة أشكال الحماية التي لا تزال تواجه القطاع الخاص.
إذا كان المسؤولون اللبنانيون لا يضعون عدالة التجارة العربية البينية، أو وضع القطاعات الإنتاجية على قائمة الأولويات، فلا يعقل ألا يكونوا مهتمين بالدين العام الذي تنامى ليصل إلى 50 مليار دولار مع مسار تصاعدي. وما هي رؤية مسؤولينا والقيمين على رقاب الشعب اللبناني لحل مشكلة الدين العام؟
إن الحديث عن إمكانية سريعة لسداد الدين العام نعتبره كلاماً مبسطاً يفتقد إلى خطط واقعية، واستمرار سياسة الاستدانة من دون أي أفق هو انتحار ويشبه إعطاء مريض مصاب بمرض عضال جرعات من المورفين لتسكين الألم بانتظار الموت النهائي. لا سيما أن أحدهم لم يتقدم بخطة واقعية لوقف الهدر والفساد. أما الحل العلمي والاقتصادي لمشكلة الدين العام يكون بتكبير حجم الاقتصاد اللبناني، وهذا لا يكون بمضاعفة عدد المباني المنشأة أو بزيادة عدد السيّاح الموسميين أو التغني بأن متر البناء في العاصمة قفز عن الـ10 آلاف دولار، بل يتم عبر خلق فرص عمل. فنحن نحتاج إلى أكثر من 30 ألف فرصة عمل سنوياً للحفاظ على شبابنا، والقطاع الوحيد القادر على خلق هذا الكم من فرص العمل هو الصناعة.
كل دول العالم من دون استثناء تدرك أهمية الصناعة في خلق فرص العمل إلا لبنان، وفي خضم الوضع الاقتصادي في العالم تعمل كل الحكومات جاهدة لخلق فرص عمل، ونحن ما زلنا نتغنى بتصدير شبابنا إلى دول الخليج والعالم، وكأن عائداتهم هي التي تمثّل ثروة وطنية للسيطرة على الدين العام، وهذا غير دقيق لأن عائداتهم ستساهم فقط في إصلاح ميزان المدفوعات.
يستأهل منا شباب لبنان وقفة مراجعة للسياسات الاقتصادية، فالشعارات التي أطلقت خلال الانتخابات لن تؤمن لشاب متخرج فرصة عمل، والنجاح في تأليف الحكومة من دون خطة اقتصادية واضحة لن يساهم في رفع عبء الدين العام عن كواهل اللبنانيين. فنذكر كل الداعين إلى السيادة والاستقلال، ألا سيادة لدولة في ظل 50 مليار دولار ديناً عاماً، ولا استقلال حقيقياً في ظل عدم التجرؤ بالمطالبة بحقوق القطاعات المنتجة وبرفع الغبن التجاري عن لبنان الذي يؤدي إلى الإغراق.
* رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين