هناك فرق بين نتيجة يراد لها تحليل، وتحليل يوصل الى نتيجة. في لبنان والمنطقة، عدد كبير من المحللين و«الخبراء» من اصحاب النتائج الموضوعة مسبقاً، والنتيجة لديهم ثابتة لا تتزحزح، مهما تغيرت المعطيات وانقلبت. والساحة السورية والتدخل الروسي فيها، مصداق حيّ لهذه الظاهرة التي تصل الى الحد الذي يضطرون معه الى الحفر في عظامهم، ليخرجوا تحليلاً يتوافق مع النتائج المسبقة، حتى وإن جاء هذا التحليل شبيه بالهيكل العظمي.
وعلى طريقة «عنزة ولو طارت»، يتحول الوجود العسكري الروسي في سوريا من تهديد للمصالح الاميركية وللاعتدال العربي، بما يشمل اسرائيل وتركيا (كما اقروا هم انفسهم)، الى تهديد لمصالح إيران وحزب الله وللنظام في سوريا. صحيح أن إيران والرئيس السوري بشار الأسد، حرّكا ودفعا وسهّلا وساهما في بلورة قرار التدخل الروسي في سوريا، بل ويتشاركان معه في خندق قتالي واحد، الا ان ذلك لا يغيّر من طبيعة وهدف هذه التحليلات: روسيا جاءت لتضرب إيران وحزب الله في سوريا، ومن ثم تدفع الاسد إلى التنحي والرحيل.
التدخل الروسي في سوريا، مناسبة للتهاني لدى البعض، ومناسبة للتعازي لدى البعض الاخر، مهما كان التعالي. قلب التدخل الموازين وثبت حقائق لم تعد قابلة للنقض، كما دفع الحلف الاميركي الى دائرة اشتباك مغايرة مع سلبه خيارات كانت أداة التهديد الرئيسية في الحرب على سوريا.
مع ذلك، تشهد الساحة السورية «حراكاً سياسياً» حول سوريا، كان مناسبة لعدد كبير من المحللين، ومن بينهم محللو النتائج المسبقة، لمحاولة استشراف مآلاته. وفي ذلك، من المفيد الاشارة الى الآتي:
اولاً: التدخل الروسي في سوريا جاء لتحقيق المصالح الروسية، في تقاطع واضح مع «حلفائها». ومع التدخل، لم تعد موسكو بقادرة على التراجع دون تحقيق اهدافها، وهي مسألة مصيرية لا خيار، وباتت تتجاوز القيادة الروسية لترتبط بالامن القومي الروسي.
ثانياً: صحيح ان ما تحقق ميدانياً لا يسمح لموسكو بفرض شروطها على طاولة المفاوضات مع الاميركيين وحلفائهم، الا ان الحراك السياسي المدفوع روسياً، ليس جزءاً من لعبة وقت ضائع بإنتظار المكاسب الميدانية، بل هو ضمن الاستراتيجية الروسية في الامتناع عن قطع التواصل مع الطرف الاخر، الذي يقارع موسكو في الساحة السورية عسكرياً، وإن بصورة غير مباشرة، كما ان هذا الحراك السياسي اتاح لموسكو ان تؤدي دور الوسيط بل والحكم، اضافة الى كونها طرفا اساسيا ومباشرا في العمليات القتالية في سوريا.
ثالثاً: لا نتائج ملموسة جراء الحراك السياسي الدولي. لا اتفاقات ولا مسودة اتفاقات ولا بدء بنية لاتفاقات. اللقاءات الجارية تتضمن فقط عرض اهداف المتحاربين على الطاولة، لا عرض مطالب قابلة للتسوية في هذه المرحلة، حيث ان الميدان لم يقل كلمته الاخيرة بعد، بل لم يبدأ بقول كلمته. واشنطن وحلفاؤها يناقشون ويحاورون روسيا ومن خلفها حلفاؤها، باوراق ما قبل التدخل العسكري الروسي في سوريا، فيما تحاور موسكو الاميركيين وحلفاءهم، بأوراق ما بعد تحقيق التدخل انتصاره الميداني المأمول.
رابعاً: اختلف المشهد الميداني في الساحة السورية، وانقلب تموضع المتحاربين. ما قبل التدخل الروسي، كانت موسكو وحلفاؤها، ينشطون ميدانياً ليمنعوا عن الحلف الاميركي تحقيق اهدافهم في سوريا. في مرحلة ما بعد التدخل، باتت واشنطن وحلفاؤها في موضع منع روسيا وحلفائها من تحقيق اهدافهم والانتصار. الامر الذي يشير الى وجهة المراحل المقبلة، ميدانياً وعلى اساسه سياسياً.
خامساً: طالما ان الميدان لم يقل كلمته النهائية بعد، فلا تسوية ولا حل سياسيا. طالما ان كل طرف يرى انه قادر على فرض ارادته الميدانية اكثر على الطرف الاخر، فسينتظر الميدان قبل ان يتوجه الى الحل السياسي. الامر الذي يعني، مزيداً من التدخل العسكري الروسي في سوريا، وارتقاء درجة في الهجوم الميداني، في مقابل جهد عسكري أميركي بمعية الحلفاء، وإن بصورة غير مباشرة، يسعى إلى منع الروس وحلفائهم من تحقيق انجازات ميدانية. مع الإشارة هنا، الى اختلاف الامكانات العملية والعملياتية بين الجانبين، بعدما تموضعت روسيا عسكرياً بصورة مباشرة في الساحة السورية، ولم يعد بامكان الاخرين مزاحمتها على التموضع العسكري الموازي المباشر في هذه الساحة.
على ما تقدم، يمكن القول وبلا مجازفة، إنّ الحراك السياسي مهما علا مستواه، ومهما واكبه من مواقف وتحليلات، فلن يؤدي الى نتائج ملموسة، بمعنى تسوية أو حل سياسي، اللذين سيبقيان منتظرين مآلات الوضع الميداني. والى ان يتحقق ذلك، على القارئ أن يتحمل المواقف والتحليلات ذات النتائج المسبقة التي لا تخرج عن كونها «تفكيراً بالتمني».