تقترب الهبة الفلسطينية اليوم من الشهر تقريباً، هناك وطنٌ لا يشبه أي وطنٍ آخر: وطنٌ من «حلم»، لذلك فإن الثورة ستكون لأجله -بشكلٍ طبيعي- أقرب إلى « الحلم». شبابٌ في عمر الورود يرفعون سلاحاً بدائياً أمام عدو يمتلك كل أنواع الأسلحة المتطورة، وفوق كل هذا... ينتصرون!
في البداية لا بدّ من إدراك أن من نتحدث عنهم هم الشعب الفلسطيني، وهم فعلياً شعبٌ يختلف تماماً عن سواه: أولاً، هو يتعرض منذ أكثر من ستين عاماً لعمليات غسل دماغٍ متوحشة وذات طبيعة قاتلة، ومع هذا فإنه حتى هذه اللحظة يثبت بأنه عصي على التدجين وعلى كل ألعاب الحواة الصهيونية. ثانياً، هذا الشعب نفسه يتعرض مراراً وتكراراً للقمع، للموت، للصلب من قبل جميع حلفائه - الأقرباء قبلاً - ومع هذا فإنه يعود كأن شيئاً لم يكن ويكمل طريقه التي يدركها جيداً. ثالثاً، لا يزال الشعب الفلسطيني يحمل صليب الأمة العربية بكاملها على ظهره، ويحارب – وحده تقريباً - عدوها الأبرز كما لو أن هذا دوره الخاص به، دون الباقين. فالخليج تنصل من الموضوع، المغرب العربي بعيد، دول الهلال الخصيب مشغولة بنفسها، إذا ببساطة ليس هناك أمام الفلسطيني إلا نفسه فحسب. رابعاً: القمع والقتل المستمران والممنهجان اللذان تقوم بهما الدولة العبرية جيشاً ومستوطنين، هذا السلوك الإجرامي المخيف، والذي يتفوق على كل ما يقوم به « داعش» بعشرات الأضعاف، ولا يتبجح أحد بالأمر، فمجزرة دير ياسين تشهد على قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث، لكن ميزة «داعش» أنّه صوّر – بفخرٍ - كل الوحشية التي يقوم بها، بينما ببساطة حاول الصهاينة طمس ما فعلوه، ولم ينجحوا. خامساً وأخيراً: السلوك الثقافي/الاجتماعي/الاقتصادي القاسي للغاية الممارس بشكلٍ يومي من قبل الجميع ضد الشعب الفلسطيني (رام الله، غزة، أراضي الـ 48، عائدين، شتات)، فحصار غزّة المسكوت عنه مثلاً أليس قتلاً؟ أو عمليات الاستيطان اليومية في الضفة أليست قتلاً؟ أو تهويد القدس وقضمها وتهجير سكانها أليست قتلاً؟
رغم كل هذا، فإن الشعب الفلسطيني يدرك طريقه جيداً، دون أي محاباةً أو استخفاف. يعرف الجيل الجديد ما حدث، يدرك ذلك تماماً، ويعرف بأن الصهيوني في تعامله معهم يحاول قتلهم اضطهادهم بكل ما أوتي من قوة، لذلك فهم يسعون خلف الموت باختيارهم، وبطريقتهم الخاصة، وبدون «تخبئةً» ذلك. يرفعون سكينهم، يغمدونها في قلب عدوهم، هكذا هي القصة الأصلية لكل المجاهدين الفلسطينيين منذ أيام «هبوب الريح»، و«ساعد مشرة»، و«أبو جلدة»، و«أبو المناجل»، وصولاً الى عزالدين القسّام وعبدالقادر الحسيني ولاحقاً أبو جهاد الوزير وجورج حبش ووديع حداد وأبو عمّار: ارفع سلاحك وأكمل الطريق. ماذا لو لم يكن هناك سلاح إذاً؟ اخترع سلاحاً، سيجيبك القسام، أو حبش، أو حداد، أو حتى «أبو المناجل»، الثائر الأصغر سناً بين جميع ثوار المرحلة المنسية، مرحلة الثورة على المحتل الإنكليزي. حينذاك حمل الشهيد الصغير مناجله التي كان يحصد بها القمح، وقتل بها أول جندي بريطاني. لم يأخذ سلاحه على عادة ثوار تلك المرحلة، بل اكتفى بمناجله، وحينما سقط مضرجاً بدمائه، شهيداً لأجل فلسطين، كان منجلاه الأثيران موجودين فوق قلبه.
هو طريقٌ صعبٌ للغاية، يدركه الفلسطيني تماماً، ويعرف أنه لن ينتهي أبداً إلا بموته أو بموت الصهاينة، لن يكون هناك حلٌ وسطي، لن تكون هناك «دولتان». فالعنصرية التي يتحدث بها الصهيوني لا يمكن نهائياً التعامل معها على أساس أنه «شريك»، ثم هو شريكٌ في ماذا؟ هل من احتل الأرض وقتل أهلها شريكٌ في شيء سوى في الدماء؟ من سفك دماءك هل يصبح شريكك في شيء؟ وكما قال القسّام يوماً حينما حوصر في قرية يعبد التي أعطاها الشهرة الكبيرة: «هاي الأرض ما بيخلص منها لا الخير ولا الرجال، هاي الأرض هي مدفن المحتلين، كملوا الطريق».