ريف اللاذقية | السادسة مساءً، تودّع التلال المكسوّة بالسنديان وشجيرات الأرز القصيرة قرص الشمس الهارب غرباً إلى بحر اللاذقية. العيون تلاحق الطائرات الحربية الروسية بجهد، فتظهر كنقاط بيضاء صغيرة في السماء الكحلية الصافية من ذلك العصر المتأخر، هنا فوق سلسلة تلال جب الأحمر في أعالي جبال ريف اللاذقية الشمالي الشرقي.
هدير الطائرات المستمر تقطعه الانفجارات المتلاحقة للقصف الجوي والمدفعي والصاروخي على الهضاب المقابلة لجبل الساروت وجبل الفرك، الملاصق لهضاب جب الأحمر، مستهدفةً معاقل الشيشانيين والتركمان والإيغور الصينيين المنضوين في «جماعة جند الشام» و«أجناد القوقاز» و«جبهة النصرة» و«الحزب الاسلامي التركستاني»، إضافة إلى «الفرقة الأولى الساحلية» التابعة لـ«الجيش الحر». الدخان الكثيف المنبعث من شدّة القصف يرفع معنويات الجنود السوريين. مئات من الرجال من اللاذقية وحلب وإدلب وحمص والجولان يصعدون التلال بالبزات المموّهة لتبديل زملائهم، يحملون بيوتهم «المؤقتة» فوق ظهورهم: حقيبة صغيرة وبطانية عسكرية، بنادق وذخائر وسجائر، ووجوه لوّحتها الشمس وقَسَّاها الصقيع. ومع حلول العتمة، يتوزّع كلّ على موقعه في الكمائن والدشم ونقاط الانتشار. الليلة تبدو صاخبة ومليئة بالمفاجآت.
في السنوات الأربع الأخيرة، انتشر المسلحون في الجبال العالية القريبة من «الحدود السورية ــ التركية» مع لواء الاسكندرون السليب، بدءاً من جبل التركمان وجبل الأكراد ثم جبل الفرك، وصولاً إلى جبل الزاوية شرقاً، فتحولت الجبال الحرجية الوعرة إلى معاقل للمسلحين، وبينهم كثيرون من الآتين من الغرب الروسي وأواسط آسيا، في ارتباط مباشر مع الاستخبارات التركية. ومع سقوط مدينة إدلب ثم مدينتي جسر الشاغور وأريحا، قبض المسلحون على مثلّث الربط بين محافظات إدلب واللاذقية وحماه. ولولا تحرير الجيش السوري لبلدة كسب الساحلية والقمم المحيطة بها قبل عامٍ ونصف، لكان المسلحون يقبضون على كامل الحدود السورية ــ التركية من الغرب، مع واجهة بحرية على الساحل السوري.
تبعد الحدود التركية عن جب الأحمر حوالى 20 كلم. السلسلة تضمّ خمس هضاب، إلى شرقها جبل الساروت المطلّ على سهل الغاب في ريف حماه الشمالي، وإلى غربها الشمالي ريف سلمى، وتتصل شمالاً بجبل الفرك الملاصق لخط الحدود. يسيطر الجيش الآن على التلال الثلاث الأولى، إلّا أن سيطرته على كامل السلسلة تكمل سيطرته على قمة جبل النبي يونس، أعلى قمة في سلسلة الجبال الشمالية، فتسمح بالتقدم شمالاً إلى جبل الأكراد وتسهّل إخضاع جبل الساروت الذي يعيق عبره المسلحون تقدّم الجيش في قرى سهل الغاب، كالسرمانية، ومنه قطع المسلحون طويلاً طرق الجيش في السهل عبر صواريخ «تاو» الأميركية. إلّا أن الأهم أن من يحوز سلسلة التلال تلك، يسيطر بالنيران على خطوط الإمداد من الحدود التركية، ويمهّد لعزل الحدود والسيطرة عليها، ضمن خطة العمل الجديدة للجيش بعد الدخول الروسي الجديد.

رأس السهم

يستدلّ مقاتلو «درع الساحل» التابع للحرس الجمهوري، و«مغاوير البحر» و«صقور الصحراء» و«نسور الزوبعة»، بخيط ملوّن يرسم الطريق بين السنديان المشذّب، للوصول إلى أعلى التلّة الأولى من الجب الأحمر، المعروفة بـ«رويسة الجلط». يقود جاك (اسم مستعار) الزوّار إلى كومة من «جرات الغاز» التي يرميها المسلحون ولم تنفجر، قبل الصعود إلى أعلى التلة. المقاتل في الـ22 من عمره، مدجّج بالقنابل وسلاحه الفردي رشاش كلاشنيكوف، وهو رام محترف على مدافع رشاشات «23» و«14.5»، ويقاتل في صفوف «نسور الزوبعة».
في 23 آب الماضي، شنّت قوات الجيش هجوماً على التلال تمكّنت خلاله من السيطرة على التلتين الأولى والثانية، بعد هجومات عدة في السابق لم يكتب لها النجاح. فإحداث اختراق على هذه الجبهة ليس بالأمر السهل، إذ إن السيطرة على التلال تعني اختراق الجبهة كرأس السهم، وسط سيطرة للمسلحين من الشرق والغرب، واستهداف دائم للقوات من التلال المحيطة ومنعها من تثبيت مواقعها.

المسلحون يبدون مقاومة عنيفة مع استعمال ملحوظ لصواريخ «تاو»

شيء كبير تغيّر على الجبهة هنا. في هجوم آب، تكبّد الجيش والقوات الرديفة له خسائر كبيرة في الأرواح في معارك الغابات الحرجية الكثيفة، التي تكلّف المهاجمين. فعدا عن فتح الجيش الآن معارك متزامنة في سهل الغاب وجبل الساروت ومنطقة سلمى، وضع دخول الطائرات الروسية على خطّ المعارك الإرهابيين في موقف حرج، مع استمرار استهداف خطوط إمدادهم ومواقعهم المحصّنة. ومنح الغطاء الجوي ورصد طائرات الاستطلاع الدائم للإرهابيين، قوات الجيش في 5 تشرين الأول، فرصة السيطرة على التلة الثالثة، المعروفة بـ«كتف جورة البطيخ»، وأجبر المدافعين على الانسحاب من التلة الرابعة، المنخفضة نسبياً، مع استمرار المناوشات، واستعداد الجيش للتقدم إلى التلة الخامسة.

الليلة الساخنة

صمت الليل على الأرض، والطائرات التي تقصف مواقع المسلحين في ريف سلمى في السماء. يكثف الجيش قصفه المدفعي وقذائف الهاون، بينما يجول جاك على الدشم المموّهة بين الأشجار، والمقاتلون السوريون يرصدون أي محاولة تسلل للمسلحين. في الليلة الماضية، تسلّل المسلحون إلى التلة الثالثة من مواقعهم التي لا تبعد سوى مئات الأمتار. لا مكان للأسلحة الثقيلة هنا، المعركة وجهاً لوجه ورجلاً لرجل، وقنبلة لقنبلة. بعد اشتباك استمر لساعة، تمكّن المسلحون من إحداث خرقٍ في الدفاعات الغربية للتلة. مرّ وقتٌ قصير قبل أن يستعيد الجنود زمام المبادرة والسيطرة على النقاط التي خسروها. استشهد الرائد ماهر وهو يقاتل في مقدمة جنوده. في الصباح، جمع الجنود السوريون ما تيسّر من جثث المهاجمين: الجثّة الأولى لمقاتل آسيوي، جثّة أخرى لشيشاني بذقن حمراء مصبوغة بالحنّاء، وجثّة ثالثة طمست النيران معالمها. الليلة يتكرّر السيناريو ذاته، لكن من دون خسائر للجيش. رمى المسلحون قنابل كثيرة، والتزم الجنود الهدوء في محاولة لاستدراجهم. استمر الاشتباك لساعة من دون تغيير يذكر. الخروج من خط التماس سيراً ثمّ الانتقال بالآلية المصفحة ضد الرصاص الخفيف للعودة إلى بلدة صلنفة محفوفان أيضاً بالخطر من صواريخ «تاو». هنا على الطريق لا تزال العديد من الثغر مكامن قاتلة للآليات، لكن تمرّ الرحلة على خير، لأن «الله زَمَّطْنا»، يقول جاك.

شبيه «العقيد أبو شهاب»

حدّة القصف مرتفعة (يوم الثلاثاء). المسلحون يرمون بين الفينة والأخرى قذائف الهاون ويقنصون الجنود ببنادق «أم. 16» الأميركية، ومدفعية الجيش والطائرات الحربية الروسية لا تهدأ. الجيش يحاول التقدم في جبل الساروت الموازي للجب الأحمر، إلّا أنه لا طرقات للآليات فوق الجبل الوعر.
في الوقت الضائع، يبحث الجنود عن جثث رفاقهم المفقودين من الهجوم السابق. يعتقدون بأن المسلحين دفنوا عدداً من الجثث في محيط تلة «ملاطيس» القريبة. القوميون بدورهم يبحثون عن جثّة الشهيد رعد مسلماني، ابن بلدة الفاكهة في البقاع الشمالي.
في دشمة متقدمة فوق التلة الثالثة، يجمع الرائد مهند (مغاوير البحر) جنوده ويوزّع عليهم المهمات. القائد يتحسّب لهجوم مفاجئ للمسلحين لتخفيف الضغط عليهم، ويريد من جنوده اليقظة الكاملة. ينهي الرائد كلامه وينهمك الجنود بالاستعداد: توزيع الذخائر وقذائف «الآر. بي. جي.»، تفقّد بطاريات الأجهزة اللاسلكية، والتحسّب لرصاص القنص من آلية للمسلحين عليها رشاش ثقيل على التلة المقابلة. قبل ساعة من الآن، نجا أربعة جنودٍ بأعجوبة من رصاص الآلية، فانهمرت عليهم أغصان الأرزة التي يتموضعون تحتها، بينهم علي (اسم مستعار)، مقاتل من مخيّم الوافدين «الجوالنة» في ريف دمشق، اسمر بشعرٍ كثيف وأب لثلاثة أولاد. يقول إن ساعته لم تحن بعد، «على القليلة ليكبروا الولاد شوي». وفي غمرة الإعداد للمعركة، يصمّ هدير طائرة «سوخوي» آذان الجميع. يشتد الهدير مع انخفاض الطائرة للإغارة، ويسمع دوي انطلاق الصاروخ. ثوانٍ أخرى، ويبدأ الجنود بالاحتفال. الصاروخ يحقّق إصابة مباشرة في الآلية التي تستهدفهم، وتندلع النيران لنصف ساعة فيها، والدخان يطوّق السماء.

في دشمة أخرى، يصوّب جندي بندقيته على ممرّ محتمل لتسلل المسلحين من أسفل التلة. المقاتل يده على الزناد، وفي يده الأخرى «كاسة متة»! المقاتل من أبناء قرى اللاذقية، لكنّه نسخة «طبق الأصل» للممثّل سامر المصري الذي لعب دور «أبو شهاب» في مسلسل باب الحارة الشهير. «يخلق من الشبه أربعين، صاروا 39» يقول أحد الجنود. الدهشة على وجوه الضيوف تدفع الجنود إلى المزاح مع زميلهم، «انتبه ما يكمشوك الأمن إنت وراجع على البيت، لأنو العقيد مطلوب»، يقول أحدهم.
مرّ أول من أمس بهدوء نسبي، إلّا أن القصف الجوي والبري اشتد مع ساعات الليل الأولى بالتزامن مع الحشد العسكري وشدة القصف. الهجوم البري وشيك في الصباح (الخميس). ينوي الجيش السيطرة على التلة الخامسة وجبل الفرك، بالتوازي مع العملية في جبل الساروت وتكثيف العمل في ريف سلمى. الهدف فصل ريف اللاذقية الشمالي الشرقي عن ريف إدلب الجنوبي الغربي وريف حماه الشمالي الغربي، وتكون الحدود التركية تحت مرمى النيران.




ازدياد الدعم التركي

فجر الخميس كان صاخباً. الطائرات الحربية لم تفارق السماء، ولم يفصل بين غاراتها المركزة سوى دقائق معدودات. امتد الصخب حتى أول الليل، مع محاولة مجموعات من «الفيلق الرابع ــ اقتحام»، المشكّل حديثاً في الجيش والقوات الرديفة، السيطرة على جبل الفرك، لتنتهي العملية من دون تمكّن المهاجمين من التثبيت. القصف العنيف والتقدم البري حققا حتى بعد الظهر السيطرة الكاملة على التلة الخامسة، إضافة إلى دخول بلدة الجب الأحمر، وهي قرية صغيرة يحمل الجبل اسمها، فيها عدد قليل من البيوت والمزارع. حتى إن القوات التفت على جبل الفرك، ووصلت إلى مشارف بلدة أبو الريش، الصغيرة أيضاً، إلّا أن المسلحين أبدوا مقاومة عنيفة، مع استعمال ملحوظ لصواريخ «تاو» الأميركية، وتدفّق لافت أيضاً للمقاتلين الشيشانيين والآسيويين، ما يؤكّد استمرار الدعم عبر الاستخبارات التركية، لا بل ازدياده. وفي ظلّ عدم تمكّن الجيش من السيطرة على جبل الفرك، لا مجال للتثبيت في النقاط المكتسبة، كالتلة الخامسة والجب الأحمر وسفح الفرك، فانسحب الجيش إلى خطوطه الآمنة قبل حلول الليل، واستمرت المناوشات.




الخبراء الروس ومدافع «Msta» وراجمات «Tos»

الطائرات الروسية الحديثة ليست الكابوس الوحيد للمسلحين في الشمال الغربي السوري. في بقعة من تلال صلنفة، تنتشر كتيبة مدفعية روسية تتسلح بمدافع ضخمة من نوع «2A65 Msta-B» (يحمل المدفع اسم نهر في شمال غرب روسيا) التي يصل مداها إلى 30 كلم، ويمكنها إطلاق حمم من القذائف التي تزن 40 كلغ وقذائف موجهة بالليزر، مسبّبة مشكلة حقيقية للمسلحين، مع الفعالية العالية للقذائف التقليدية لهذا المدفع ضد التحصينات والدشم، إضافة إلى كتيبة صاروخية من راجمات صواريخ «Tos» ذات الكثافة النارية العالية من عيار 220 ملم، وراجمات تقليدية أخرى. ويراقب عدد من الخبراء الروس سير المعارك من المراصد الجبلية العالية، إضافة إلى تسيير الطائرات من دون طيار لمتابعة تحرّكات المسلحين وتوجيه القوات الجوية والبرية.