سحبنا 700 مليار ليرة من تعويضات نهاية الخدمة • 802 مليار ليرة مستحقات على الدولة
• لا حلّ للعجز إلا بزيادة الاشتراكات

حسن شقراني
يتأسّف المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على أمور كثيرة عرقلت تطوير الصندوق وأوقعته في العجز، ولا سيما قرار خفض الاشتراكات في عام 2001. لكن رغم ذلك، يدعو الجميع إلى التعاون وعدم التعنّت لأنّه «لا يمكن تصوّر لبنان من دون ضمان». محمّد كركي تحدّث لـ«الأخبار» عمّا يهدّد الضمان والرؤية الوطنيّة لحمايته والبراغماتيّة في إدارته

بدأت أطراف عديدة على علاقة مباشرة بالضمان، وضمنها نقابات العمال، حملة تحذّر من مخاطر تهدّد هذه المؤسّسة، انطلاقاً من مجموعة معطيات. هل ثمة خطر فعلي على الضمان؟ هل هناك ما يبرّر هذا القلق الآن؟

الضمان يشمل ثلث الشعب اللبناني على نحو مباشر أو غير مباشر. وعندما نرى أنّ الناس يهتمّون بموضوع الضمان، فهذا الأمر إيجابي. أمّا بالنسبة إلى المخاطر، فيمكن القول إنّ هناك وجهتي نظر في جميع بلدان العالم: الأولى تفيد بأنّ الضمان الاجتماعي عائق أمام النمو الاقتصادي، نتيجة الكلفة طبعاً، وأصحاب هذه الفكرة هم الليبراليّون المتطرّفون. أمّا الطرح الآخر فيقول إنّ الضمان الاجتماعي هو حافز للنموّ، فعندما يتمتّع العامل بالرعاية الاجتماعيّة ترتفع إنتاجيته.
كان هناك لغط كبير في مواضيع عديدة عن مصير الضمان، متعلّقة بالخصخصة والرسملة. نحن نرى أنّه يجب توحيد الرؤية الوطنيّة بشأن دور الضمان وتطويره وتعميمه ليشمل جميع أبناء الوطن وزيادة تقديماته لتشمل تقديمات البطالة وطبّ الأسنان وطوارئ العمل والأمراض المهنيّة والحماية الاجتماعيّة. والمدافعون عن الضمان وحاضنوه هم من سيستمرّ بنهجه لا الآخرون. وواهم من يعتقد أنّ شركات التأمين هي من يستطيع الاهتمام بالصحّة، لأنّ تلك الشركات تعمل وفق منطق الربح، فيما الضمان مؤسّسة مستقلّة هدفها توفير الخدمة العامّة وتستقبل جميع الناس مهما كان وضعهم.

تتحدّث عن زيادة التقديمات، فيما إدارة الضمان متّهمة بخفضها من خلال اقتراحات قدّمتها!

للأسف وُضعت بعض الأمور في غير إطارها. أكيد نحن نسعى منذ عام 2002 لقانون التقاعد والحماية الاجتماعيّة لاستبدال نظام نهاية الخدمة. والمشروع الذي كان موضوعاً قبل مجيئنا تغيّر كلياً. فقد أدخلنا أهمّ تعديلين: ضمان صحّي مدى الحياة، وضمان حدّ أدنى لمعاش كلّ من تخطّى 20 عاماً في وظيفته. والآن نطرح إمكان ربط المعاش بمتوسّط الأجور السائد المصرّح عنها.
كذلك بدأنا الآن بعض المشاورات في كيفيّة العمل على إنشاء صندوق البطالة. والآن نعمل مع البنك الدولي والوزارات المعنيّة في إطار مشروع جديد لتحفيز النموّ في لبنان في إطار يسمّى «MILES» للمرّة الأولى على صعيد لبنان، انطلاقاً من كل المعطيات الماكرو اقتصاديّة: سوق العمل، الاستثمارات، الضمانات الاجتماعيّة.
لكن للأسف، أسيء فهم مشروع اقترحناه للضمان كان الهدف منه الحفاظ على فرع المرض والأمومة واستدامته الماليّة. وأثار الموضوع بلبلة لدى المضمونين، لذا يجب شرحه: المسألة طبعاً هي خفض تقديمات الضمان في المعاملات الاستشفائيّة بهدف الطبابة من 90% إلى 75%، وهدفها الأساسي كان ضبط بعض الحالات غير المقبولة في الضمان. وبناءً على الإحصاءات، من بين 250 ألف حالة استشفاء سنوياً في لبنان تمثّل حالات الاستشفاء بداعي الطبابة 65%، فيما معدّل النسب العالميّة يبلغ 45%. أي إنّ هناك حوالى 50 ألف حالة استشفاء يمكن معالجتها خارج المستشفى.
المشروع كان مطروحاً منذ عام 2003 في الضمان، وللأسف لم يُترجم. واقترحت إدارة الضمان إلزام المستشفيات في إطار النسب العالميّة للحدّ من الدخول إلى المستشفيات بداعي الطبابة. والهدف كان كيفيّة إشعار المواطن بأنّ للاستشفاء كلفة، والدخول إلى المستشفى يجب أن يكون مبرّراً... هذه هي خلفيّة القرار، لا خفض التقديمات طبعاً.
وعلى أيّ حال، وُضع القرار جانباً، ولم يؤخذ به! ونحن لا ننفكّ نطالب بالإصلاح. وإذا بقيت كلّ جهة تتعنّت، من عمّال وأصحاب العمل وموظّفي الضمان والدولة، فلا إمكان للتطوّر. نحن كنّا نريد حماية فرعي المرض والأمومة والتعويضات العائليّة. للأسف كان هناك قرار خاطئ في عام 2001 أدّى إلى وصول الضمان إلى مرحلة العجز، وهذا القرار هو خفض الاشتراكات بنسبة 50% لفرعي المرض والأمومة والتعويضات الاجتماعيّة.
وللأسف ما حصل لبنان لم يحدث في أي مكان في العالم. وبينما كان لدينا بنهاية عام 2000 فائض بقيمة 640 مليار ليرة كان يكفينا عشرات السنين، امتصصنا كلّ الوفر بنهاية عام 2003، واستمرّ التمويل من فرع نهاية الخدمة. ولغاية عام 2008 سحبنا من أموال نهاية الخدمة 600 مليار ليرة لبنانيّة، وبنهاية عام 2009 سيصل المبلغ إلى 700 مليار ليرة.
لذا علينا التفكير والرؤية إلى الأمام. ومثلما أوقعوا فرع المرض والأمومة والتعويضات العائليّة في العجز، هناك مخطّط للسكوت عن واقع الضمان رغم عشرات الكتب المرفوعة من إدارة الضمان لإعادة التوازن إلى الفرع العاجز منذ عام 2003. هذه هي المؤامرة برأينا على الضمان.
أمّا بالنسبة إلى ضمان الأهل، فقد طرحنا رفع كلفة التغطية رمزياً لكي يشعر المواطن بأنّه يساهم في الضمان عبر دفع 20 ألف عن كلّ من والده ووالدته. لأنّه للأسف لا يمكن أن يبقى الضمان فاتحاً أبوابه على هذا النحو. ففي التعاونيّة يحصل الأهل على تغطية بنسبة 50%، فيما نقدّم نحن تغطية بنسبة 90%. لذا فالجميع يتهافتون على الضمان ونحن نبقى مشرّعين أبوابنا. وللأسف اتّهمنا بأن اقتراحاتنا هي بوحي من الحكومة والبنك الدولي.

يعدّ سحب الأموال من صندوق نهاية الخدمة مخالفاً لقانون الضمان. إلامَ تستندون لسحب الأموال وتغطية العجز في فرع المرض والأمومة والتعويضات العائليّة؟

القانون طبعاً يتحدّث عن استقلاليّة صناديق الضمان. والمادّة 66 تشرح أنّه في حال العجز يُستخدم الاحتياط، وعندما ينتهي الاحتياط تُرفع الاشتراكات. الأخطر هو أنّ النظام المالي يقول إنّه عندما يكون هناك عجز يُرفع الأمر إلى رئاسة الوزراء بناءً على التدابير المتّخذة. وبالتالي نحن نرفع كتاباً أو كتابين إلى مجلس إدارة الضمان كل سنة، ونؤكّد ضرورة إنهاء العمل بمرسوم زيادة الاشتراكات. لكن مثلما هي الأمور الآن، فإنّ الكرة في ملعب مجلس الإدارة. ولتتحمّل الحكومة المسؤوليّة القانونيّة.

تتحدّث عن تحويل 240 مليار ليرة إلى الضمان من الحكومة خلال العام الجاري، وفي مشروع موازنة عام 2010 يُرصد 300 مليار ليرة. هل هذه المبالغ كافية لتجنّب العجز؟ هل يجب اتخاذ إجراءات إضافيّة، أم تسير الأمور على طريق التحسين؟

في إطار التعاون مع الدولة، نشير إلى أنّه منذ عام 2004 بدأت الأمور تسير نحو الأفضل. فعندما بدأنا العمل كان للضمان 1000 مليار دولار ديوناً على الدولة. وكان يُدفع للضمان سنوياً 20 مليار ليرة أو لا شيء. لكن في عام 2005 سُدِّد 290 مليار ليرة، وفي عام 2006 نحو 150 مليار ليرة، وفي عام 2007 نحو 280 ملياراً، وفي عام 2008 نحو 100 مليار ليرة، ولغاية اليوم من عام 2009 دفعت الدولة 160 مليار ليرة. إذاً منذ عام 2004 تكون الدولة قد دفعت 1000 مليار ليرة.

المبلغ المدفوع يتضمّن جزءاً من المستحقّات السابقة أم هو عبارة فقط عن المساهمة السنويّة من جانب الدولة؟

المبلغ يتضمّن المساهمات السنويّة. ويبقى الآن على الدولة 802 مليار ليرة. وفي عام 2010 رصدت الدولة مبلغ 300 مليار ليرة، هو عبارة عن مستحقات بقيمة 220 مليار ليرة، إضافة إلى 80 مليار ليرة مستحقات عن الماضي. وهنا نرى أنّه إذا التزمت الدولة بدفع المستحقّات، نكون فعلاً قد فتحنا صفحة جديدة معها. وتبقى النقطة العالقة هي المستحقّات السابقة، فالضمان يطالب بالفوائد. والآن نحن في إطار التفاوض.
لكن حتّى إذا دفعت الدولة مستحقّاتها، فذلك لا يحلّ مشكلة الضمان. لأنّ مشكلتنا هيكليّة تتعلّق بمستوى الاشتراكات. ففي عام 2009 نتوقّع عجزاً في فرع المرض والأمومة بقيمة 52 مليار ليرة، وفي فرع التعويضات العائليّة بحدود 12 مليار ليرة.

قلت في السابق إنّ الضمان الاختياري مضيعة للوقت وليس تدبيراً عملياً وذا جدوى لتحقيق التغطية الشاملة. ما هي رؤيتكم لتحقيق التغطية الشاملة؟ وما هي العراقيل في هذا الإطار؟

فُرض الضمان الاختياري على الضمان الاجتماعي سياسياً، ولا بدّ من حلّه سياسياً. ورغم الاجتماعات في مجلس الوزراء لم يُتخذ أيّ قرار في هذا الصدد. ونحن نأمل معالجة الموضوع لأنّ هناك 20 ألف عائلة في الضمان الاختياري، أي حوالى 55 ألف مستفيد. ولبّ المشكلة هو مالي. ففي المتوسّط يدفع المشترك 94 ألف ليرة شهرياً، فيما يكلِّف حوالى 250 ألف ليرة تقديمات. لذا هناك عجز قيمته 160 ألف ليرة.
وعلى أي حال لا إمكان لنجاح الضمان الاختياري حالياً، فالضمان الاجتماعي يغطّي بين 30% و35% من الشعب اللبناني. وفي بعض البلدان التي طرح فيها الضمان الاختياري يكون الضمان الاجتماعي يشمل بين 90% و95% من الشعب، حيث تبقى شريحة بسيطة يتحمّلها النظام العام مثلما هو الوضع في فرنسا.
ونحن لسنا نعارض تغطية عدد متزايد من اللبنانيّين طبعاً، لكن هناك كلفة مرتفعة جداً. ويجب معالجة هذا الاختلال عبر التوازن المالي. ونود التأكيد أنّنا لم نكن نعاني من مشكلة إداريّة، على الرغم من أنّ هناك شواغر وظيفيّة تمثّل 40% من الملاكات الإجماليّة. واستطعنا أن نُدخل 35 ألف عائلة في الضمان الاختياري في عام 2003، أي حوالى 100 ألف مستفيد من دون أيّ مشكلة إدارية. ومالياً لم يكن لدينا مشكلة كبيرة، فخلال 6 سنوات بلغ عجزنا الإجمالي في هذا الإطار 120 مليار ليرة، أي 20 مليار ليرة سنوياً فقط.
أمّا بالنسبة إلى الضمان الشامل، فيجدر التذكير بأنّ قانون الضمان الذي بدأ العمل به في عام 1965، يتحدّث عن مراحل لإدخال الجميع إلى الضمان. وفي عام 1975 صدر قانون يجيز لمجلس الوزراء إدخال أيّ شريحة من المجتمع اللبناني في الضمان. وما نقوله نحن هو أنّه يجب إدخال جميع اللبنانيّين على أساس شرائح بطريقة إلزاميّة. نفتح للجميع باشتراكات مدروسة، ونحن لن يكون لدينا مشكلة في استقبال أيٍّ كان.
وحتّى الشريحة الصغيرة التي تبقى خارج الضمان بسبب عدم قدرتها على تسديد اشتراكاتها، ونسبتها القصوى قد تصل إلى 15% من مجمل السكّان، تستطيع الدولة عبر وزارة الصحّة مثلاً تغطيتها.
إذاً، المشكلة ليست في الضمان، وهناك إمكانات إداريّة رغم أنّنا نحتاج إلى رفع الكادر البشري. لكن المشكلة هي في سياسات الدولة. الدولة لم تستطع تحمّل 20 مليار ليرة في الضمان الاختياري، فكيف الحال عندما يتعلّق الأمر بكامل الشعب؟
وعندما يصبح هناك توافق على دور الضمان ومستقبل الضمان وكيفيّة تحويله إلى «شامل»، سيكون الضمان جاهزاً من حيث الإمكانات لتنفيذ سياسات في إطار توفير الطبابة والاستشفاء على صعيد لبنان ككل.

ما الذي يمنع مناقشة جدية للالتزام الذي قطعته الكتل النيابيّة في المنتدى الذي نظّمه الاتحاد الأوروبي في العام الماضي، أي التغطيّة الصحّية الشاملة الممولّة بالنظام الضريبي، لا بنظام الاشتراكات؟

أعتقد أنّ الجميع متّفقون على الهدف، أي تحقيق الطبابة والاستشفاء لجميع اللبنانيّين. أمّا الخلاف فهو على الكيفيّة. وتبقى عقدة التمويل المرتبط بالسياسات الماليّة للدولة وبالإمكانات المتوافرة. هل الدولة قادرة الآن على هذا الموضوع في ظلّ التزاماتها الماليّة، وخصوصاً أنّ دينها سيزيد على 50 مليار دولار؟

ما هي «التنازلات التي يجب أن يقدّمها الجميع»، وهي عبارة تذكرها دائماً؟ هل تبدأ بالقرار السياسي؟

نحن نرى أنّ الإصلاح عمليّة مستمرّة وليست مرتبطة بأي نغمة سياسيّة تجري كلّ 5 سنوات أو 7 سنوات! وفي ما يتعلّق بالضمان، يجب أن تبدأ الإشارة السياسيّة من الدولة لكي نباشر بعمليّة الإصلاحات. ولدى إدارة الضمان طرق لمعالجة كل المواضيع.
وإذا كان هناك تبنٍّ حقيقي للقضايا الأساسيّة المطروحة، نرى أنّه خلال عام أو عامين يكون الضمان قد اتجه نحو الأفضل.
لكن في الوقت نفسه يجب التأكيد أنّ الكرة هي في ملعب المضمون، فهو المستفيد الأكبر، وعليه التفكير في كيفيّة حماية نفسه وهذه المؤسّسة التي ترعى حقوقه، ويجب أن يكون هناك مبادرة أساسيّة من جانب العمّال. وعلى أي حال أقولها بكلّ صراحة: لسنا خائفين على الضمان، وكل من يحاول ضرب الضمان الاجتماعي يكون كمن يحاول إنهاء لبنان.