بعد الهجوم الإرهابي المسلح الأخير الذي استهدف حسينية في مدينة سيهات يوم الجمعة الماضي، وهو قد أتى بعد سلسلة عمليات انتحارية استهدفت مساجد في كل من عسير وقبلها الدمام والقديع والدالوة في المنطقة الشرقية في السعودية، برزت إلى السطح ــ ولا تزال ــ أصوات النخب والأكاديميين وشرائح واسعة من المواطنين السعوديين، الذين عزوا تصاعد الأعمال الإرهابية في بلدهم إلى الفكر القائم على التكفير وهدر دم كل من لا يؤمن بالمعتقد الوهابي في مملكة آل سعود.
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي خصوصاً «تويتر»، الذي ينشط فيه السعوديون، بتصريحات وآراء المشايخ الوهابيين المحرّضة على تكفير الآخر، واستحضرت التغريدات التي دعت إلى تكفير شريحة كبيرة من سكان السعودية وإخراجها من ملة الإسلام، لا لفعل اقترفوه سوى أنهم اختلفوا بالاعتقاد والمنهجية الفقهية مع الإرث العقدي الوهابي لنظام آل سعود. جزء من هذه الأصوات ألقى اللوم على خطب المشايخ في منابر الجمعة والمساجد التي ألقيت وتلقى على مسمع الكبير والصغير من مرتاديها، فأسهمت في خلق بيئة حاضنة لمفهوم تكفير الآخر، فيما اعتبر الجزء الأكبر من هذه الأصوات أن إصبع الاتهام الأول يجب أن يتجه إلى النظام عامة والقيّمين على مناهج التعليم الديني في المدارس والجامعات والكليات، التي وضعت كتباً ومقررات لكل المراحل الدراسية، تبدأ من المرحلة الابتدائية، وصولاً إلى مرحلة الدراسات العليا في الجامعات.
نظرة على أبرز ما تحتويه المناهج التعليمية في مملكة آل سعود التي تفرضها في المدارس والمؤسسات التعليمية كافة على أراضيها، تجعلنا نقف للبحث والتعمق طويلاً في ما يتلقفه الطفل الصغير ذو السنوات الست، مروراً بالمراهق ذي الخمس عشرة سنة، وصولاً إلى الطالب الجامعي العشريني الراشد، هل ما تُعبّأ به أدمغة الأجيال من تعاليم وأفكار ينعكس على الواقع الذي وصل إليه الحال من هجمات انتحارية وضربات إرهابية يتبناها تنظيم «داعش»؟
في الدرجة الأولى، علينا الإشارة إلى أن الانتحاريين الذين نفذوا هجمات في مختلف المناطق السعودية كانوا من أبناء البلد، ولم نسمع عن انتحاري من أي جنسية عربية أو أجنبية أخرى نفّذ عملية على الأراضي السعودية، حتى إن معظم العمليات الانتحارية التي شهدتها دول خليجية وآخرها الكويت أظهرت أن المنفذ وشركاءه سعوديون.

مقررات «التوحيد والحديث» في طبعة 2015 بقيت ككتب الأعوام السابقة دون تعديل

وفي ظل غياب إحصائية رسمية دقيقة حول عدد السعوديين الذين نفذوا هجمات انتحارية في السعودية وباقي دول المنطقة والعالم (ما خلا إحصائية وزارة الداخلية العراقية التي قدرت عددهم بنحو 300 انتحاري سعودي بين 2007 و2013)، فإن تقديرات الخبراء تشير إلى أن العدد الأكبر من منفذي عمليات تنظيمي «داعش» و«النصرة» الانتحارية في كل من سوريا والعراق هو من السعوديين، بحسب معظم مراكز رصد الهجمات الإرهابية حول العالم. مناهج التعليم الديني في مملكة آل سعود كانت حديث الصحافة والرأي العام الأميركي في النصف الثاني من عام 2007، بعد زيارة لوفد من المفوضية الأميركية لشؤون الأديان حول العالم (التي ترفع تقاريرها للكونغرس الأميركي) للسعودية واطّلاعه على المناهج التي تدرّس في المدارس والكليات السعودية. الوفد، بعد عودته إلى واشنطن، طالب سفارة السعوديين لديه بتزويده بنسخ من كتب «الحديث والتوحيد» التي تدرّس في «الأكاديمية الإسلامية السعودية» الكائنة في واشنطن، وبعد تمنّع الأكاديمية التي يرأس مجلس إدارتها السفير السعودي في واشنطن، قدمت المفوضية توصياتها بإغلاق الأكاديمية، إذا ما أصر السفير السعودي على تمنّعه.
دوايت بشير، وهو مدير «الأبحاث والسياسات» في المفوضية الآنفة الذكر، وأحد أعضاء الوفد الذي زار الرياض آنذاك، شنّ حملة على الأكاديمية السعودية. وبعد أخذ وردّ اضطُر السعوديون عام 2009 إلى إجراء تعديل على مقرري الحديث والتوحيد في الأكاديمية المذكورة، فأُزيلت كل الأحاديث والتعاليم الوهابية التي تحضّ على العنف والتكفير والكراهية التي طلب الأميركيون إزالتها. هذه الحادثة تثبت وجود المشكلة في مناهج آل سعود التعليمية التي لو لم يستشعر الأميركيون خطر ما فيها لما أثاروا الموضوع مع حليفتهم وأصروا على تعديلها.
عملية غسل أدمغة الناشئة
منذ نعومة أظفار الطفل، ومع بداية تكوُّن القدرات العقلية والذهنية للطالب ذي السنوات الست أو السبع، الذي لم يبلغ سن التكليف الشرعي في الإسلام، تدهم عقله الغضّ الدروس والأفكار الدينية المستوحاة من كتاب «التوحيد» لمحمد بن عبد الوهاب. فمثلاً، في مقرر «التوحيد والفقه» للصف الثاني الابتدائي للعام الدراسي، هناك ما يدعو إلى تكفير الآخر في باب «الشرك سبب للشقاء في الدنيا والآخرة»، ويرد في نصّه:
«توضيح أن من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله كالدعاء، والذبح، والسجود، وغير ذلك فهو مشرك كافر، ولو صلى وصام وحج واعتمر وزعم أنه مسلم». وفي الصفحة 19 يرد «بيان أن من صرف شيئاً من أنواع العبادات لغير الله مثل «الدعاء» فهو مشرك، ولو نطق بلا إله إلا الله، لأن التوحيد: هو إفراد الله بالعبادة». وفي صفحة 22 من المقرر نفسه: «التأكيد على وجوب عبادة الله بما شرع، فلا يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله، كبدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج».
تُستكمل عملية غسل أدمغة الناشئة عبر فرض أفكار المعتقد الوهابي في باقي المراحل الدراسية، فطالب الصف الأول متوسط يدرس في مقرر «التوحيد» في الصفحة 94 أن «بلاد المسلمين هي مرتعٌ للبدع ومنها عبادة القبور، والنذور والقرابين للأولياء والصالحين وبذلك إن ما ينذره جهلة المسلمين، من نذور للأولياء والصالحين فهو شرك أكبر».
وعندما يصل الطالب إلى المرحلة الثانوية، فإن من وضع المنهاج يستكمل فكرته السابقة بتلقين الطالب حكم ما يرد في مقرر «التوحيد» في الصف الأول المتوسط، فيُدرَّس طالب الصف الثالث ثانوي في مقرر «التوحيد» الحكم الشرعي «للشرك الأكبر»، فيتم تشريع العنف والقتل له في الصفحة 15 عندما يقول: «الشرك الأكبر يبيح الدم والمال» ويعود ليؤكد له الفكرة في الصفحة 12: «المشرك حلال الدم والمال»، وتتوضح الصورة لدى الطالب لناحية الجهة التي يجب أن تكون مهدورة الدم والمال في الكتاب ذاته في الصفحة 18: «الذي يقول لا إله إلا الله، ولا يترك عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة، لا يحرم ماله ولا دمه». هذه بعض مقتطفات بسيطة ترد في الكتب والمقررات الدينية في المراحل التعليمية الأساسية، أما بالنسبة إلى المرحلة الجامعية، فيكون العقل الوهابي قد تخمّر بأفكار التكفير لينتج دراسات ورسائل ماجستير ودكتوراه في جامعات وكليات تملأ مدن المملكة.
لا تزال شريحة واسعة من مرتزقة الأقلام وكتاب الصحف الرسمية للنظام السعودي تسعى جاهدة إلى نفي أي مسؤولية للسلطة الحاكمة بأجهزتها التعليمية عن الجرائم التي باتت تضرب جسمه مستهدفة فئات وشرائح واسعة من المجتمع السعودي ودول الجوار والعالم ككل. بعض هؤلاء الكتّاب ذهب إلى اعتبار تزايد عدد الإرهابيين والانتحاريين السعوديين في صفوف «داعش» وأخواتها حالات فردية شاذة «غريبة عن مجتمعهم» وطبعاً دون إغفال توصياتهم بضرورة تطوير ما يسمى «برنامج المناصحة» لإقناع الإرهابيين السعوديين بضرورة التبرؤ من منهجيتهم والعدول عنها، وإيجاد استراتيجية أمنية في التصدي للإرهاب.

المناهج بمضمونها الحالي
غابت منها المفردات المحيلة على معاني الاعتدال والتسامح
في مقابلة على قناة «العربية» قبل شهرين، أطلق عضو مجلس الشورى السعودي السابق خليل عبد الله الخليل، تصريحات أحرجت السلطات والمؤسسة الدينية الوهابية. قال الخليل إن 60% من الشباب السعوديين مستعدون للانضمام إلى «داعش»، وفور إدلائه بهذا التصريح اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالمواقف والآراء المندّدة التي دعت إلى محاكمة الخليل، وفي ما يخص موضوع المناهج والحاجة إلى تعديلها، كان فريق من الباحثين والأكاديميين السعوديين، على رأسهم المحامي الإصلاحي عبد العزيز القاسم عام 2011 قد أصدر كتاباً حمل عنوان «مناهج العلوم الشرعية في التعليم السعودي، استقراء، تحليل، تقويم»، تناول الأسس والقواعد التي تدعو إلى تعديل مناهج التعليم الديني وكيفية القيام بذلك.
خلص الفريق في كتابهم إلى ضرورة انفتاح مناهج العلوم الشرعية على مرجعيات جديدة وتوسيع دائرة النظر واكتشاف مظاهر التنوع والثراء في الفكر الإسلامي لتجنب مخاطر التشدّد وأحادية الخطاب. ورأى الفريق أنّ المناهج بمضمونها الحالي غابت منها المفردات المحيلة على معاني الاعتدال والوسطية والتسامح وقبول الآخر المخالف، وهو «غياب من شأنه أن ينمي في الطلاب مظاهر الانغلاق والتشدد، ويؤسس فيهم شعوراً بالكراهية والعداوة لكل من يخالفهم الرأي». لم يجرِ تبني توصيات القاسم وزملائه رغم الأصوات المرتفعة التي تنادي بالكفّ عن المكابرة وسياسة صمّ الآذان التي يتبعها آل سعود في مقاربتهم لموضوع مناهجهم التعليمية.

لا أمل في تغيير المناهج

كان الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، الذي أُطلق عليه لقب «رائد الإصلاح»، يتحدث دائماً عن الإصلاح وضرورته، لكن دون أن يلمس أي سعودي أو عربي ولو حتى خطوة صغيرة تُسهم في اقناع الناس بجدية هذه التصريحات. وهو وإن كان قد أوعز بإجراء مراجعة لتحديث المناهج سابقاً، فإنه أوكل المهمة إلى الجهة نفسها التي وضعت تلك المناهج وتشرف شخصياً على صونها وضمان عدم التعديل عليها.
اكتشف السعوديون مع بدء العام الدراسي الحالي أن مقررات «التوحيد والحديث» في طبعاتها الحديثة عام 2015 بقيت نفسها ككتب الأعوام السابقة دون تعديل، فلا أمل في التغيير في عهد الملك سلمان سلمان وحاشيته، والمتأملون في تغيير ما، لن يبلغوا مرادهم ولن يتغيّر شيء إلا على الأرض الأميركية كما أسلفنا. وما دامت العقلية الحاكمة عند آل سعود أن إرثهم مقدس وعقيدتهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم ممنوع النقاش بها، سيستمر القتل والتفجير والانتحاريون بالتفريخ ولتذهب دول الجوار وكل من اختلف معهم في السياسة والعقيدة إلى الجحيم، فرُسُلُ القوم والمتخرِّجون من مدارسهم وفكرهم باتوا يملؤون دولنا ومحيطنا قتلاً وتجزيراً وتدميراً باسم «التوحيد والدين الحنيف».



الوهابيّة منذ البداية في «وزارة المعارف»

عام 1923 كتب المفكر والمؤرخ اللبناني الشهير أمين الريحاني رسالة وجهها إلى عبد العزيز مؤسس السعودية يمتدح فيها إنجازاته بتطوير حياة البدو وسعيه لنقلهم إلى حضارة المدن، وقد ختم الريحاني رسالته بالتمني على الملك أن يستكمل مشروع «نهضته» ويبني لشعبه المدارس ويفرض عليهم التعليم. عمل عبد العزيز بنصيحة الريحاني وأنشأ المدارس، ففي عام 1925 أسس ما عرف بـ«مديرية المعارف العمومية» التي افتتحت 12 مدرسة في مدن الحجاز ثم امتد نشاطها إلى منطقتي الأحساء ونجد، وانتدب علماء الوهابية آنذاك للإشراف على المقررات الدراسية، وعلى رأسهم حفيد محمد بن عبد الوهاب «محمد بن ابراهيم آل الشيخ» الذي كان رئيساً للإفتاء العام.
وفي عهد الملك الثاني سعود بن عبد العزيز عام 1954 تأسس ما عُرف بـ«وزارة المعارف» التي أشرفت على التعليم العام للبنين في مراحله الثلاث (الابتدائي ـ المتوسط ـ الثانوي). وكان فهد بن عبد العزيز أول وزير للمعارف، حتى عام 2003، تم تغيير اسم الوزارة ليصبح «وزارة التربية والتعليم».