حسام كنفانيخمس سنوات على الغياب. فراغ ما بعده فراغ تركه رحيل الزعيم الرمز للقضية الفلسطينية، ياسر عرفات (أبو عمار). غياب رجل استثنائي لمرحلة استثنائية ولقضية استثنائية، لم يكن من الممكن أن يملأه أيّ كان، وبالتأكيد لن يملأه محمود عبّاس، المتربّع حالياً على مقعد «الزعامة» الفلسطينية. مقعد كبير جداً على عبّاس، الذي حاول أن يلبس العباءة وأن يضع الكوفية، لكن لا يزال ينقصه الكثير، وشتان بين السلف والخلف. ربما الظروف التي يمر فيها عبّاس اليوم وحال اليأس التي تعتريه فرصة لإجراء مقاربة بسيطة بين الرجلين، رغم أنه لا مجال للمقارنة إطلاقاً. قد تكون الظروف وحدها هي المتشابهة قليلاً لجهة الطريق المسدودة التي وصلت إليها المفاوضات وتحميل الفلسطينيين تبعات انهيار عملية التسوية.
قصة عرفات والطريق المسدودة بدأت بعد اجتماعات طابا في عام 2000، في الأيام الأخيرة لولاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون. انهارت المفاوضات وعاد وفدا المفاوضات خاليي الوفاض. إلقاء تهمة الفشل على الفلسطينيين بدأ مع كلينتون نفسه، وها هو يتكرر مع زوجته هيلاري. لكنّ الردّ الفلسطيني حينها كان مختلفاً. لم يكن تلويحاً بالاستقالة ولا تهديداً بالعزوف عن الترشّح إلى الانتخابات، كان الردّ بانتفاضة واسعة النطاق. انتفاضة لم تكن فقط وليدة ردّ فعل على دخول أرييل شارون إلى باحات الحرم القدسي، بل كانت جزءاً من أسلوب عرفات في إدارته للعبة المفاوضات. فهو لم يترك يوماً البندقية، التي كان يراها لسانه الثاني للتفاوض مع الإسرائيليين، وكان خير من سخّر هذه الوسيلة في خدمة إدارته للمفاوضات، ولم يتردّد في استخدامها أكثر من مرة.
لم يخرج أبو عمّار يوماً إلى شعبه يائساً شاكياً، ولم يظهر ليعلن تخلّيه عن مهماته ومسؤولياته
ثم جاء عدوان السور الواقي والحصار الإسرائيلي لأبو عمار في مقرّ المقاطعة. لكن الأنكى كان الضغط العربي على الزعيم الفلسطيني، وخصوصاً بعد مجيء جورج بوش الابن إلى السلطة وتهمة الإرهاب التي ألبست للعرب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. للتخلّص من التهمة، وجد العرب في الضغط على أبو عمار لوقف الانتفاضة غايتهم، وعندما فشلوا، كانت القطيعة. قطيعة يرويها أحد مسؤولي الفصائل الفلسطينية، الذي كان في زيارة إلى القاهرة لإجراء مباحثات مع قادة الاستخبارات. حينها رنّ جرس الهاتف وكان أبو عمار على الخط، لكن لم يردّ أحد على الاتصال.
مثل هذه الظروف عاشها أبو عمّار في أيامه الأخيرة، وعاش أسوأ منها في بيروت وعمّان، لكنه لم يخرج إلى شعبة يائساً شاكياً، ولم يظهر ليعلن تخلّيه عن مهماته ومسؤولياته، بل على العكس تماماً، كان هو من يزرع الأمل في نفوس من دبّ اليأس فيهم. من محبسه كان يخرج ليعلن أن «شعب الجبارين» لا ينكسر. من موقع حصاره كان يظهر ليقول «يا جبل ما يهزّك ريح». على ضوء الشموع التي كانت تنير عتمة المقاطعة، كان يرسل رسالة إلى المستقبل: «سيرفع شبل من أشبالنا أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق أسوار القدس ومآذن القدس وكنائس القدس».
كان التحدّي لسان حاله، حتى في أحلك الأيام التي عاشها. هذا هو ما يحتاج إليه الفلسطينيون اليوم. قد يكون اليوم شبيهاً بالأمس قليلاً في ظروفه ومعطياته، لكن بالتأكيد الرجال يختلفون كثيراً. لا شيء يجمع بين أبو عمّار وأبو مازن غير مسمّى «الرئيس الفلسطيني» أو «رئيس حركة فتح». مسمّيات لا يمكن أن تصنع زعامة ولا تاريخاً.
خمس سنوات، لا بد أن يكتشف الفلسطيني مع كل ذكرى كم هو كبير ثقل الغياب.