تتهافت الدول العربية للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لا بل إن العودة إلى «الحمائية» في ظل الأزمة المالية التي ضربت العالم تُعدّ مفاهيم أصابت الـ WTO في الصميم، لكنها لم تخفّف من الاندفاع الرسمي العربي إلى الانضمام... أين المجتمع المدني العربي في هذا المشهد؟ التجارب القاسية هي الحكم
رشا أبو زكي
محوران أساسيّان يحكمان عمليات التفاوض وانضمام الدول العربية إلى منظّمة التجارة العالمية (WTO)، المحور الأول هو العلاقة ما بين المجتمع المدني والحكومات العربية، والمحور الثاني يتمثّل في القدرات التفاوضية للحكومات مع الدول الكبرى في المنظمة، فهذه الدول المهيمنة تعمل على جعل الدول النامية أسواقاً لمنتجاتها مهما كان الثمن... وفي كلا المحورين لا نجاح يتحقق، الحكومات لا تأخذ بآراء المجتمع المدني على الرغم من أنه المتأثر الأول بتداعيات الانضمام، المجتمع المدني لا يعمل على مواجهة الاستهتار الحكومي بحزم وجرأة، وفي الوقت نفسه تخضع الحكومات لمساومات سياسية في عمليات التفاوض لتجعل من اقتصادات دولها النامية مكشوفة من دون أي نوع من الحمائية!... أربع تجارب في تونس ولبنان والمغرب ومصر، بيّنت الآثار السلبية التي تستهدف الفئات المهمّشة والقطاعات الإنتاجية نتيجة الانضمام إلى WTO، عُرضت في اجتماع لممثلي المجتمع المدني في الدول العربية، عُقد أمس في فندق كراون بلازا، لصياغة مطالب واضحة ومحددة، وستعرض اليوم في اجتماع الخبراء الذي أعدّته شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية إعداداً للمؤتمر الوزاري السابع لمنظمة التجارة العالمية في 30 الشهر الجاري في جنيف.
الدول الغنية تعمل على خفض التعرفات في الدول النامية إلى مستويات غير منطقيّة!
انعكاسات انضمام الدول العربية إلى منظمة التجارة العالمية تظهر بوضوح في الدول النامية، ويشير الخبير في منظمة العمل الدولية منصور عميرة، إلى أن أفريقيا تتصدر قائمة الدول الأكثر تأثراً سلباً بالانضمام، ويبرز انحدار قطاع النسيج واضحاً في مصر والمغرب والأردن وغيرها من الدول... ويلفت عميرة إلى أن تحرير التجارة سيرفع معدلات البطالة في المنطقة، رغم أنها وصلت إلى مستويات قياسية، ففي تونس مثلاً، يشغّل قطاع الألبسة 110 آلاف تونسي، إلّا أن خفض التعرفات الجمركية نتيجة الانضمام إلى منظمة التجارة سيشمل أساساً هذا القطاع، ما يجعل هذه الوظائف في دائرة الخطر... ويؤكد عميرة أن التأثيرات ستكون سلبية على المدى القصير، حيث سيُفقد عدد كبير من الوظائف، وعلى المدى البعيد لن يكون هناك قدرة على استحداث وظائف جديدة!
وتداعيات الانضمام لا تنحصر في قطاعات إنتاجية محددة، لا بل إن التحرير التجاري أدى في عدد كبير من البلدان إلى زيادة هشاشة الاقتصادات النامية، وتراجع إمكانات التنمية والتطوير الصناعي، وتراجع عمل النقابات العمالية، فيما ارتفعت نسبة الفقراء ارتفاعاً يصعب ردمه! وكذلك ارتفعت نسبة اللّامساواة في الدخل وفي التمييز الجندري.
ولكن ألا توجد بنود حمائية للدول النامية في قانون WTO نفسه؟ يقول عميرة إنه يحق للدول النامية أن تتمتع بمميزات تفاضلية، من حيث الحصول على إجراءات حمائية معيّنة، إلّا أن الدول الكبرى في المنظّمة تعمل حالياً على تقليص إفادة الدول النامية من هذه المميزات، لا بل تصر على أن تعمل هذه الدول على خفض التعرفات الجمركية عن بعض السلع بنسب تتخطى الخفوض الموجودة في الدول الغنية!
وإن كانت الدراسات التي تقوم بها أكثر من جهة دولية بيّنت وبالأرقام الانعكاسات السلبية للانضمام على الدول النامية، وإن كانت الأزمة المالية العالمية قد وجّهت صفعة قوية إلى السياسات التحريرية التي تسّوق لها منظمة التجارة العالمية على أنها المخلّص المضمون للدول النامية، فإنّ تجربة مصر بعد الانضمام تؤكّد أن القطاعات الإنتاجية والفئات المهمّشة والفقراء كانوا من أكثر المتأثرين سلباً من انضمام مصر إلى WTO، ويوضح الممثل عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حسام بهجت لـ«الأخبار» أن التأثيرات الإيجابية التي نتجت من عملية الانضمام لم تُفد سوى قلة من الطبقة الغنية، فيما ارتفعت معدلات البطالة والفقر وأسعار بعض السلع، وانخفضت الضمانات الاجتماعية والأمان الوظيفي، ويلفت إلى أن دعوى قضائية رفعتها «المبادرة المصرية» ضد وزارة الصحة المصرية، لكونها بعد انضمام مصر إلى WTO، عمدت إلى تغيير آلية تسعير الأدوية، فبعدما كانت تعتمد على سعر الكلفة، أصبحت تسعّر وفق الأسعار العالمية للأدوية، ما رفع الأسعار وحرم المواطنين الحقّ في الحصول على الدواء.
أما لبنان الذي دخل المفاوضات من أجل الانضمام إلى WTO، فلم يأخذ بالعبر، إذ يشير عضو جمعية الصناعيين أنطوان ريشا، إلى أن وزارة الاقتصاد لا تنصت إلى القطاعات الإنتاجية، وتدخل في عملية التفاوض من دون أي دراسة لانعكاسات الانضمام على الاقتصاد اللبناني، ويشرح أن الجمعية رفضت الاتفاقية التجاري مع الاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من ذلك مضت الحكومة اللبنانية في توقيعها، فكان انخفاض الصادرات اللبنانية ما بعد الاتفاقية من 50% إلى 12% وذلك بسبب زيادة العراقيل الأوروبية أمام المنتجات اللبنانية، وفي المقابل فُتحت السوق اللبنانية أمام المنتجات الأوروبية على مصاريعها!
والحال نفسها تنطبق على المغرب، إذ يرى ممثل المنتدى الاجتماعي المغربي مجد سعيد السعدي أنه إذا استمرت وتيرة المفاوضات على حالها، فإن الدول الغنية ستحصل على نصيب الأسد من عملية انضمام الدول النامية، ويشدّد على أن تحرير القطاعات الخدماتية الأساسية، وفتحها أمام الشركات المتعددة الجنسية، ومنها التعليم والصحة والكهرباء والمياه، يؤثّران سلباً في أصحاب المداخيل المنخفضة والفئات المهمّشة، لا بل سيؤدّيان إلى ضرب حتى حقّ الإنسان في الحصول على المياه! ويسأل عن السبب الذي يمنع وجود أي نقاش وطني بشأن عملية الانضمام، إذ لا يؤخذ إلّا برأي القطاع الخاص، فيما يجري تهميش آراء المزارعين والنقابات العمالية والمصدّرين وغيرهم.
ويشير الدكتور عزام محجوب (تونس) إلى أن تقليص التأثيرات السلبية يتعلّق مباشرةً بقدرات الدول التفاوضية، ففي تونس وُضع عدد لا يستهان به من الإجراءات الحمائية خلال عملية التفاوض، ما أدّى إلى حصر المخاطر عن القطاعات الإنتاجية، إلا أن محجوب يشدّد على أن التحرير التجاري عمّق الفوارق الاجتماعية، وانحصرت الإفادة في قطاعات دون الأخرى، ولم تشهد تونس أيّ تحسن في عملية توزيع المداخيل.