تَوأم الاتحاد الأوروبي سياساته مع المصالح التركية. هكذا، خرج الطرفان باتفاق أعلنت خطواته في ختام القمة التي جمعتهما في العاصمة البلجيكية بروكسل. النية المعلنة كانت إيجاد حل جذري لأزمة اللاجئين، وتعزيز العلاقات بين أنقرة وأوروبا! أما الخطوات المتخذة على أرض الواقع فقد كانت مجرد نيات لتوطين لاجئ سوري واحد من الموجودين في تركيا، مقابل كل لاجئ تعيده أوروبا إليها. غير أن استقبال «القارة العجوز» للاجئين السوريين لن يتخطّى 72 ألفاً خلال العام الجاري، على أن يتم إيقاف العمل بهذه الآلية حال تجاوز العدد المذكور، فيما يفترض أن يقوم الطرف التركي باتخاذ كافة التدابير لمنع الهجرة غير الشرعية داخل أراضيه.
56 خيمة احترقت ولم تحضر سيارة
إطفاء واحدة

الصفقة «الوضيعة» دخلت حيّز التنفيذ، وراح اللاجئون الذين وصلوا اليونان عبر بحر إيجه ضحيتها. علق هؤلاء في اليونان في ظروف إنسانية ساحقة أجهزت على أحلامهم بالوصول إلى برّ الأمان بعد مخاطرتهم في رحلة موت على متن القوارب المطاطية التي ما زالت تقلّهم من تركيا إلى اليونان. لكن الغريب أن معاناتهم الجديدة ظلّت إلى حدّ بعيد حبيسة مخيماتهم في اليونان، دون اهتمام إعلامي كاف، أو حتى التفاتة من السوريين أنفسهم عبر «السوشال ميديا»، كما حصل قبل بضعة أشهر لدى غرق الكثير من القوارب المهاجرة في عرض البحر. وكأن هناك إرادة لدفن معاناة المهاجرين غير الشرعيين والتعتيم عليها، والامتناع عن تسليط الضوء على الأساليب القمعية التي باتت تستخدمها بحقهم السلطات اليونانية، والظروف التي تمنع المنظمات الحقوقية والإنسانية والطبية العمل هناك، وظهور تقارير قليلة تتحدث عن سفر مندوبي هذه المنظمات بسبب الظروف السيئة التي تحيط بأماكن تجمعات المهاجرين. مع ذلك يتوافد عدد من المتطوعين لمساعدة آلاف العالقين في مدينة تسالونيكي اليونانية. عدد من هؤلاء المتطوعين الذين تواصلت معهم «الأخبار» قالوا إن «حريقاً اشتعل أول من أمس في إحدى الخيم، ونتيجة سوء الأحوال الجوية انتقل الحريق إلى خيم أخرى فأبادها عن بكرة أبيها. ولحسن الحظ أن القدر لم يولّف لعبته بمحاذاة أرواح الباحثين عن ملاذ آمن لهم ولأبنائهم، بل اكتفى بابتلاع أغراضهم وما حملوه معهم من متاع ونقود تسد جزءاً من رمق حاجتهم، إضافة إلى أوراقهم الرسمية التي تثبت جنسياتهم السورية التي يفترض أن تمكّنهم من تقديم اللجوء». مرّ الحريق بسلام على مستوى الأرواح واكتفى بحالات إغماء وقعت بين المصابين. ويضيف المتطوعون: «جرّب أصحاب الخيم المحروقة استقدام مصورين وصحافيين لتصوير ما حل بهم، لكن الضابط المسؤول طردهم من المكان ومنع أي صحافي من الوصول إلى مكان الحريق». هنا يلتقط أحد المتطوعين بكاميرا هاتفه النقّال ما تيسّر له من صور، ويلتقي بأحد المهاجرين السوريين فيسأله عمّا حصل بالضبط ليجيب: «لا يريدون للصحافة أن تصوّر حتى لا تصل معاناتنا إلى العالم، ويعرف ماذا يحل بنا». يطلب المتطوع معطيات أكثر عن الحريق فيرد محدّثه: «سبّب الحريق اشتباكاً بين المهاجرين والشرطة اليونانية عندما حاول الأهالي الوصول إلى بقية الخيم، وإخراج الأطفال منها، فحاول رجال الشرطة منعهم كي لا يتأذى أيّ منهم، لكن نتيجة غياب اللغة المشتركة في التواصل ظن الناس أن الشرطة تريد منعهم من الوصول إلى الاطفال، فاحتدم الأمر ووصل إلى تهديدات هؤلاء الأهالي بحرق المخيّم بما فيه في ساعة شيطانية».
لاجئ آخر يبدو عليه الغضب يقول: «56 خيمة احترقت خلال 10 دقائق، ولم تحضر سيارة إطفاء واحدة. وفي هذا المخيّم يوجد 2200 شخص كانوا مهددين بالموت خلال دقائق». تتداخل الأصوات ليعبّر أحد المتضررين من الحريق عن حاله ورفاقه بالقول: «غامرنا بأنفسنا وعائلاتنا وأرواحنا لنعبر البحر بعد أن دفعنا كل ما نملك من مال. كنا نموت في سوريا بسرعة، والذي اختلف بعد رحلتنا المضنية هو موتنا البطيء هنا».
الحريق الطارئ لا يقل سوءاً عن الظرف الخدمي المتردي، والمهيّأ أصلاً لانتشار أوبئة بين أفراد تلك العائلات، إضافة إلى إمكانية وقوع الأطفال ضحايا للزواحف السامة المنتشرة في المخيّم، فضلاً عن إبادة الحريق لكل الأوراق الثبوتية لعشرات العائلات الذين لن يتمكنوا من إثبات جنسيتهم.
تتداخل الأصوات مجدداً لترسو عند امرأة تنتحب، ويبدو من صوتها الخوف الشديد على أطفالها فتقول: «أطفالي كانوا خارج الخيمة، وإلا كانوا في عداد الأموات. لا أحد كان يمكنه أن يعوّضني ظفر طفل من أولادي». يشرح متضرر آخر عن ثمن «الكرفانة» أو الخيمة البلاستيكة التي تبلغ 2000 يورو، والتي تعتبرها الجهات المسؤولة عن المخيم أغلى من الإنسان بحسب محدّثنا، رغم أنها مهيّأة للاشتعال بسرعة، ليفيد الرجل بأنه دفع «6 آلاف يورو حتى تمكن من الوصول إلى منفاه الجديد مع عائلته».
يشتكي السوريون هناك ومعهم أعداد قليلة من العراقيين والأفغان من الغياب التام لمنظمات حقوق الإنسان ومرادفاتها، ويطالبون بالحد الأدنى من الإنسانية ريثما يتم إيجاد حلول لمشاكلهم، خاصة في مسألة توزيع الطعام.
يختتم صفحة المعاناة لاجئ مسنّ فيقول بحسرة: «خسرت حوالى نصف وزني في بضعة أسابيع قضيتها في هذا السجن، وأمنيتي الأخيرة أن يجتمع الاتحاد الأوروبي ويسيّر حفنة من الطائرات لتقصف المخيّم وتزيلنا عن الوجود... لم نعد نرغب في مزيد من الذل».